الدّربُ ذات الشّوكة.. والعبور واجبٌ

الشّيخ علي حمادي العاملي

نسيرُ في اتجاهٍ واحد.. لأنّ الصراطَ واحد.. وكذلك النّور.
تختلفُ فلسفةُ الحياة عند المسلمين عن كلّ فلسفات الوجود.. ليس هناك أيامُ سلمٍ وأيام حرب! الحياة كلها ظاهرة عسكرية مستمرّة، تهدأ وتشتدّ، وتشتدّ وتهدأ.. تتعدّد أسباب النار وأشكال الفتن، ولكنها تشترك كلها في أنها تشكف الذهب.. «أحسِبَ الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يُفتنون».
«لقد كنا نحاسًا فحوّلنا الإمام الخميني(قدس) إلى ذهب»، يختصر هذا التعبير العميق للسيد القائد دام ظله حقيقة الشعب الذي يتحول من حالة الركون إلى الظالمين أو الخضوع للطغاة، إلى حالة الصبر على المواجهة والشدائد. هذه كيمياء المحبة في ثقافة العارفين. يتحول المعدن بإضافة عنصر العشق المخصّب إلى جواهر نفسية لا يوجد مثلها على هذه الأرض. «لا أعلم أصحابًا أوفى من أصحابي»، ذلك أن أصحاب الإمام الحسين(ع) صبروا معه عندما واجه الطغاة وقال: «أصبر على بلائه حتى يحكم الله بيننا والله خير الحاكمين».
من شُعَب أبي طالب وحصار السنوات الثلاث، إلى حصار الجمهورية الإسلامية أكثر من أربعين سنة، إلى جهاد الشيعة في جبل عامل في مواجهة الصهاينة المحتلين، وما بين ذلك تاريخٌ من الصبر.. وتاريخٌ من النصر.
إنّ معادلة النصر في القرآن الكريم ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالصبر. فالنبي(ص) ومن معه صبروا على ما أوذوا في سبيل الله، قد تبدو هجرتهم هزيمة في بادئ الأمر؛ ولكن الواقع كشف عكس ذلك، إذ كانت الهجرة مقدّمةً لانتصار عظيم سوف يغير وجه العالم في قيام دين الحق لله.
كذلك عندما شنّ أعوان الشيطان الأكبر حربهم المفروضة على الجمهورية الإسلامية، سقط آلاف الشهداء وحاول الأعداء السيطرة على أجزاء من الأراضي الحدودية في ايران، ظنها بعض الغافلين الذين يفصلون البعد الأخروي عن الحياة، هزيمة، ولكن تلك الهزيمة في الظاهر تحوّلت إلى نصر استراتيجي سيغير مجددًا وجه العالم عندما تبني إيران قدرات معجزة في ظل الحصار وتتحول مع السنين إلى قوة إسلامية كبرى في مواجهة الاستكبار العالمي.
المعنى إذًا هو في النظر إلى طبيعة الصراع وطبيعة الأهداف وربط الأهداف الدنيوية بالهدف الأخروي الأساس من حياتنا ووجودنا. وإن المعيار ليس في الغلبة المادية فهذه تتبدل بين لحظة وأخرى «وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين»، الأهم هو الذخائر الروحية التي تصنع المعادلات غير الطبيعة وغير المنطقية في الحسابات الرياضية «إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين».
جاء «طوفان الأقصى» ليكشف تلك الحقيقة، وذلك الامتحان الإلهي الذي جرى على الأمم السابقة، وسنن التاريخ التي لا تتبدل. كشف عن قوة مادية أُعدت لتُرهب عدو الله وعدونا، وقوة معنوية تجلّت في الصبر على القتال والصبر على الشدائد والصبر على البلاءات.
وجبهة الإسناد في لبنان لم تكن يومًا بعيدة عن حدود فلسطين القلبية وليس حدود سايكس بيكو الوهمية، وهي بالتأكيد ليست محدودة بحدودٍ للصبر. إنه مجتمع بدأ مع «أبي ذر الغفاري» المنفي في البلاد؛ لأنه جاهد بكلمة الحق، وصولاً إلى السيد عبدالحسين شرف الدين يواجه الاستعمار الفرنسي في وادي الحجير، مع أدهم خنجر وصادق حمزة وأمثالهما ممن خرّج جبل عامل من الثائرين المنتظرين.. والله يحب المنتظرين. وصولًا إلى مؤسس المقاومة الإمام موسى الصدر الذي أبى إلا أن يصلي على حطام مسجدٍ دمّره الصهاينة على الحدود مع فلسطين، فكان مصداقًا لقوله تعالى «واستعينوا بالصبر والصلاة». وانطلقت المقاومة.
انطلقت المقاومة الصابرة، ونهض الشعب الذي تربى في مدرسة عاشوراء، وساحة عاشوراء في «النبطية» تشهد حين تحولت إلى مصداق من مصاديق «كل أرض كربلاء»، عندما دخلت الدبابات الصهيونية في أثناء المسيرة العاشورائية فصدحت الجماهير بالتكبير، وهجموا على الدبابات وهم يهتفون بصوتٍ منطلقٍ من أعماق التاريخ المفعم بالإباء «هيهات منا الذلة».
اليوم يعيش النازحون ظروفًا قاسية.. عدوٌّ خارجي متوحّش، ومتآمرون في الداخل يودّون لو نغفل عن أسلحتنا وأمتعتنا فيميلون علينا ميلة واحدة. كل العالم يرجو انكسارنا.. يمنّون أنفسهم الملتوية لو تخرج من بيئة المقاومة كلمة ضد مقاومتهم الصامدة؛ لأن ما تعرضوا له من ضربات غادرة تخر بها الرواسي من الجبال وقد يحمل أي شعبٍ آخر غيرهم على اليأس.. ولكن هيهات.. هؤلاء ليسوا كما باقي البشر.. هم خُلقوا من فاضل طينة أهل بيت محمد(ص)، ولسان حالهم: «نصبر على بلائه ويوفّينا أجور الصابرين» وصبروا..
صبروا ابتغاء وجه ربهم.. صبروا على ما أوذوا من كلمات وسخرية وألسنةٍ أشد من السنان والسيوف، امتثالاً لقوله تعالى «اصبر على ما يقولون».. صبروا على الجوع والعطش وهدم البيوت.. صبروا على رحيل الأعزاء المقدّسين..
صبروا قديمًا... وعبروا..
ويصبرون اليوم.. وسيعبرون.. سيعبرون بالقوة الكاسرة للتوازنات..
القوة الروحية هي الأساس ثم قوة السيف.. قد يدمّر العدو بعض مخازن السلاح، ولكن هناك ذخيرة هيهات تصل إليها صواريخه الحارقة.. ذخيرة لا تسعها كل مستودعات الأرض ومخازن الجبال.. ولكنها مستودعة في القلوب والأرواح.. إنه الصبر المقدس.. ذخيرة احتشدت في نفوس أبية وأنوف حمية.. تعيننا على درب ذات الشوكة.. لكننا سنصل.. سنصل حتمًا إلى النور.. إلى الفتح الذي لا يعبر إليه إلا من سلك.. صراط المقاومة.

البحث
الأرشيف التاريخي