تم الحفظ في الذاكرة المؤقتة...
انقسام يُهدد المستقبل
بين الشعبوية والحقوق.. أوروبا تعيد رسم سياسة الهجرة
جذور الأزمة وتحوّلها إلى ورقة سياسية
منذ التسعينيات، واجه الاتحاد الأوروبي موجات متكررة من الهجرة، بدءًا من نزوح مئات الآلاف خلال حروب البلقان وصولًا إلى تدفقات المهاجرين من أفريقيا والشرق الأوسط. هذه الأحداث دفعت الاتحاد إلى التفكير في آليات مشتركة لإدارة الأزمات، لكنها في الوقت نفسه ساهمت في صعود الأحزاب الشعبوية واليمينية التي جعلت من الهجرة قضية انتخابية مركزية. ومع مرور الوقت، لم يعد الملف مجرد قضية إنسانية أو اجتماعية، بل أصبح ورقة ضغط سياسية تُستخدم في الحملات الانتخابية، وأداة لإعادة تشكيل التحالفات داخل البرلمان الأوروبي. هذا التحوّل جعل من الهجرة ساحة اختبار حقيقية لوحدة القارة، حيث تتباين المواقف بين من يرى فيها تهديدًا للأمن والهوية، ومن يعتبرها فرصةً للتجديد الاقتصادي والاجتماعي.
المقترحات الجديدة.. مراكز العودة وتشديد العقوبات
المفوضية الأوروبية قدّمت هذا العام ثلاث نصوص أساسية للتصويت، تُمثّل حجر الأساس في سياسة الهجرة الجديدة. أول هذه النصوص يتعلّق بإنشاء «مراكز عودة» خارج الاتحاد الأوروبي، بحيث يتم إرسال المهاجرين الذين رُفضت طلباتهم إلى دول تُعتبر «آمنة» وفق معايير الاتحاد. هذه الفكرة، وإن بدت منسجمة مع مطالب اليمين، تثير شكوكًا حول فعاليتها، خاصةً أن تجارب مشابهة لم تحقق نجاحًا فعليًا في الماضي. النص الثاني يركّز على فرض عقوبات أشد على المهاجرين الذين يرفضون مغادرة الأراضي الأوروبية بعد رفض طلباتهم، وهو ما يُنظر إليه كخطوة لردع المخالفين وتعزيز الانضباط القانوني. أمّا النص الثالث فيتعلق بتسريع إجراءات إعادة المهاجرين، عبر آليات أكثر صرامة وتنسيقًا بين الدول الأعضاء، بهدف تقليل الفجوة بين القرارات القانونية والتنفيذ العملي. هذه المقترحات تفتح الباب أمام جدل سياسي وقانوني واسع، بين من يعتبرها ضرورة لحماية الأمن الأوروبي، ومن يراها تهديدًا مباشرًا لحقوق الإنسان والقيّم التي يقوم عليها الاتحاد.
الانقسام الأوروبي.. بين التشكيك والدعم
المواقف الأوروبية متباينة بشكلٍ واضح. فرنسا أبدت تشكيكًا في قانونية وفعالية بعض الإجراءات، معتبرةً أن «مراكز العودة» قد لا تحقق النتائج المرجوة.
إسبانيا عبّرت عن مخاوف مشابهة، مشيرةً إلى أن التجارب السابقة لم تثبت نجاحًا فعليًا. في المقابل، النمسا والسويد وبلجيكا أعلنت رفضها استقبال طالبي لجوء إضافيين، ما يعكس توجّهًا نحو الانغلاق. هذا الانقسام يعكس صعوبة التوصل إلى توافقٍ شامل، خاصةً أن النظام المقترح لتوزيع طالبي اللجوء يفرض على الدول خيارين: إما استقبال المهاجرين أو دفع مساهمة مالية قدرها عشرون ألف يورو عن كل طالب لجوء. اليمين واليمين المتطرّف، من جهتهما، يقدّمان دعمًا واضحًا لهذه السياسات، بعد أن نجحا في بناء تحالف داخل البرلمان الأوروبي لضمان الموافقة المبدئية. هذا المشهد يعكس بوضوح أن الاتحاد الأوروبي يعيش حالة من التوتر السياسي بين تيارات متناقضة، وأن ملف الهجرة أصبح ساحة اختبار حقيقية لوحدة القارة.
البُعد الحقوقي والإنساني.. أزمة هوية أوروبية
منظمات المجتمع المدني وجمعيات حماية المهاجرين ترى في هذه السياسات انتهاكًا مباشرًا لحقوق الإنسان. منظمة PICUM، على سبيل المثال، اعتبرت أن الاتحاد الأوروبي يختار سياسات «تدفع الناس إلى الخطر وانعدام الأمن القانوني»، بدلًا من الاستثمار في الحماية والإدماج.
هذا الموقف يسلّط الضوء على التناقض بين القيم التي يرفعها الاتحاد الأوروبي- كالحرية والكرامة الإنسانية - وبين السياسات التي يُناقش اعتمادها. ويطرح سؤالًا جوهريًا: هل يمكن للاتحاد أن يحافظ على صورته كمدافع عن حقوق الإنسان بينما يتبنى سياسات قد تُعتبر إقصائية؟ إن هذا التناقض يضع الاتحاد أمام أزمة هوية، حيث يجد نفسه مضطرًا للاختيار بين الحفاظ على مبادئه أو الانصياع لضغوط سياسية داخلية قد تقوّض تلك المبادئ.
التداعيات المحتملة..صورة الاتحاد ومستقبله
إذا تم اعتماد هذه السياسات، فإن التداعيات ستكون واسعة. على صورة الاتحاد الأوروبي عالميًا، قد يُنظر إليه ككيان يتخلى عن قيمه الإنسانية لصالح حسابات سياسية داخلية، ما يضعف مكانته كقوة ناعمة في العالم. على العلاقات مع دول الجنوب، إقامة«مراكز عودة» خارج أوروبا قد تثير توترات مع الدول المضيفة، خاصةً إذا اعتُبرت هذه المراكز عبئًا أمنيًا أو اقتصاديًا. أما على الاستقرار الداخلي الأوروبي، فقد تؤدي السياسات المتشددة إلى تعزيز الانقسامات الاجتماعية، وزيادة التوتر بين المهاجرين والمجتمعات المضيفة. أما على مستقبل الاندماج الاجتماعي، فقد يضعف تشديد الإجراءات فرص إدماج المهاجرين الذين يُسمح لهم بالبقاء، ويزيد من الشعور بالعزلة والتمييز. هذه التداعيات تجعل من الملف أكثر تعقيدًا، وتؤكد أن الحلول السطحية قد تؤدي إلى نتائج عكسية.
الهجرة وقود الشعبوية
في السنوات الأخيرة، تحوّل ملف الهجرة إلى أداة مركزية في الخطاب الشعبوي داخل أوروبا. الأحزاب الشعبوية واليمينية المتطرّفة وجدت في هذا الملف فرصة ذهبية لتأجيج المخاوف الجماهيرية، وربط الهجرة بمفاهيم مثل فقدان الأمن، تراجع الهوية الوطنية، وضغط الموارد الاقتصادية. هذا الخطاب لم يبقَ مجرد شعارات، بل أصبح وسيلة مباشرة لحصد الأصوات في صناديق الاقتراع، حيث يقدّم الشعبويون أنفسهم كحماة «الأمة» في مواجهة «الغرباء».
في إيطاليا، على سبيل المثال، استثمرت أحزاب مثل «الرابطة» بقيادة ماتيو سالفيني في خطاب معادٍ للهجرة، ونجحت في تحويل المخاوف من تدفق المهاجرين عبر البحر المتوسط إلى رافعة انتخابية قوية. في المجر، وظّف فيكتور أوربان ملف الهجرة لتعزيز سلطته، عبر تصوير المهاجرين كتهديد وجودي للهوية المجرية المسيحية، ما ساعده على ترسيخ حكمه وتوسيع قاعدة مؤيديه. أمّا في فرنسا، فقد شكّل ملف الهجرة محورًا رئيسيًا في الحملات الانتخابية، حيث استخدمته مارين لوبان وحزبها «التجمع الوطني» لتقوية خطابها الشعبوي القائم على حماية الهوية الفرنسية من «الغزو الثقافي». هذه الأمثلة توضّح كيف تتحوّل الهجرة إلى وقود سياسي، إذ تُستغل المخاوف الجماهيرية لتغذية الشعبوية، وتُترجم مباشرة إلى مكاسب انتخابية.
يمكن القول إنّ هذه السياسات تُمثّل استجابة ظرفية لضغوط سياسية وانتخابية أكثر مما هي تحوّل استراتيجي طويل الأمد. العلاقة بين الهجرة وصعود الشعبوية واضحة: كلما ارتفعت أعداد المهاجرين، زادت قوة الخطاب الشعبوي الذي يربط الهجرة بانعدام الأمن أو فقدان الهوية الوطنية.
لكن نجاح هذه السياسات ليس مضمونًا، فالتجارب السابقة أثبتت أن الحلول القائمة على الردع وحده لا تكفي، وأن معالجة جذور الهجرة مثل الفقر وعدم الاستقرار في الدول المصدّرة تبقى ضرورية. إنّ الاتحاد الأوروبي إذا اكتفى بالحلول الأمنية والإجرائية، فإنه يخاطر بتعميق الأزمة بدلًا من حلها، ويضع نفسه في مواجهةٍ دائمة مع قيّمه المؤسسة.
الهجرة بين الأمن والقيّم
الاتحاد الأوروبي يقف اليوم أمام مفترق طرق. بين الضغوط الشعبية والسياسية من جهة، والاعتراضات الحقوقية والقانونية من جهةٍ أخرى، يبدو أن القارة أمام اختبار صعب: هل تختار مسار التشدد الذي قد يرضي بعض الناخبين لكنه يهدد صورتها الدولية، أم تبحث عن حلول أكثر توازنًا تراعي الأمن والإنسانية معًا؟ إن الإجابة على هذا السؤال ستُحدد ليس فقط مستقبل سياسات الهجرة، بل أيضًا مستقبل الاتحاد الأوروبي ككيان سياسي وقيّمي، قادر على التوفيق بين مصالحه الداخلية والتزاماته الدولية.
