القوة الناعمة تحت المجهر؛

هل يصبح مستقبل التعاون الأكاديمي ضحية للصراعات السياسية؟

/ يشهد العالم تحولًا دراماتيكيًا في العلاقات الثنائية بين القوى العظمى، إذ أصبح التعليم الدولي أداة ديناميكية ضمن صراعات النفوذ الدبلوماسي. ففي خطوة أثارت جدلاً واسعًا، أعلنت إدارة الولايات المتحدة عبر تصريحات وزير الخارجية «ماركو روبيو» عن قرار بإلغاء تأشيرات الطلاب الصينيين وفق معايير جديدة تستند إلى اعتبارات أيديولوجية وأمنية. من جانبه، رفع مسؤولو بكين صوتهم رافضين هذا الإجراء الذي وصفوه بأنه «تمييزي» وغير منطقي، مما دفع الطرفين للدخول في دوامة من التصريحات والمطالب الدبلوماسية.
خلفية القرار والسياسات الأميركية الجديدة  
تعود جذور هذا القرار إلى سياسة سابقة اتبعتها إدارة ترامب، والتي ركزت على الضغط على الجهات التي تسعى لاستخدام التعليم كوسيلة للتأثير في السياسات الداخلية للولايات المتحدة.
أعلنت الإدارة الأميركية أن عملية إلغاء التأشيرات لن تقتصر فقط على الطلاب الذين يُظهرون ميولًا في مجال الفكر أو ينتمون إلى دوائر يتم رصدها، وإنما ستشمل أيضًا أولئك المرتبطين بالحزب الشيوعي أو الذين يدرسون في مجالات حساسة. كما أشارت التوجيهات إلى مراجعة شاملة لمعايير منح التأشيرات تماشياً مع أهداف الأمن القومي وتعزيز القدرة على التدقيق في الطلبات القادمة.
يأتي القرار في وقت يسعى فيه الطرفان إلى إعادة ترتيب العلاقات الدبلوماسية، بحيث يُستخدم التعليم كوسيلة لتأثير نقاط الضعف في الطرف المنافس، مما يُعيد صقل مفهوم «القوة الناعمة» الذي تعتمد عليه الدول الكبرى في جذب العقول والخبرات.
رد فعل بكين والتوتر الدبلوماسي
في ردٍ سريع على هذه الخطوة، أعربت وزارة الخارجية الصينية عن استيائها ووجهت احتجاجًا رسميًا لدى واشنطن. وقد صرحت المتحدثة باسم الوزارة«ماو نينغ» بأن قرار إلغاء تأشيرات الطلاب الصينيين استند إلى أسباب غير منطقية واستخدمت ذريعة الأيديولوجيا وحقوق المواطنين كذرائع للتدخل في شؤون التعليم والتبادل الثقافي. تعكس هذه التصريحات مدى حساسية العلاقة بين الطرفين، إذ يُنظر إلى التعليم ونقل المعرفة كوسيلتين رئيسيتين في تعزيز العلاقة الثقافية والاقتصادية، مما يجعل أي خطوة تتعلق بهما تتداخل مع معايير العدالة والتنافس التجاري.
ومنذ عقود صارت الولايات المتحدة الوجهة المفضلة للكثير من الطلاب الصينيين الباحثين عن بديل للنظام الجامعي الصيني شديد التنافسية، والذين انجذبوا إلى السمعة الطيبة للجامعات الأميركية. وينحدر هؤلاء الطلاب عادة من عائلات ثرية قادرة على تحمل التكاليف الباهظة للدراسة في الجامعات الأميركية.
وبقي الكثير من هؤلاء بعد التخرج في الولايات المتحدة وينسب إليهم الفضل في تعزيز القدرة البحثية الأميركية والقوى العاملة في الولايات المتحدة.
ومع ذلك، انخفض عدد الطلاب الصينيين في الولايات المتحدة إلى حوالي 277 ألفًا في 2024، من حوالي 370 ألفًا في 2019، بسبب التوتر المتزايد بين أكبر اقتصادين في العالم وتشديد الرقابة من جانب الحكومة الأميركية على الطلاب الصينيين وجائحة كوفيد-19.
التعليم والتنافس في سياق قوة ناعمة  
يُعد نظام التعليم وتدفق الطلاب من الصين نحو الجامعات الأميركية عنصرًا حيويًا في الصراع الدبلوماسي بين البلدين. فالطلاب ليسوا مجرد عناصر أكاديمية، بل يُنظر إليهم كوسطاء لنقل المعرفة والتكنولوجيا وأسلوب الحياة، مما يعزز من القوة الناعمة للبلدان المستضيفة. وفي هذا السياق، تُعرض المؤسسات التعليمية الأميركية نفسها لضغط متزايد للإجابة عن تساؤلات حول معايير قبول الطلبة، خاصةً بعد أن أُلغيت آلاف التأشيرات سابقًا، وبعضها كان يخص طلابًا شاركوا في أنشطة منتقدة للعدو الصهيوني أو عبروا عن أفكار تتعارض مع السياسات الأميركية الرسمية.
التأثيرات الاقتصادية والدبلوماسية  
على الصعيد الاقتصادي، تُعتبر الرسوم الدراسية ومصاريف الطلاب الدوليين مصدرًا رئيسيًا للعائدات المالية للجامعات الأميركية، مما أدى إلى ترقب تأثير مثل هذه القرارات على القطاع التعليمي بأكمله. من ناحيةٍ أخرى، فإن القرار لا يُمثل مجرد تغيير في سياسة التأشيرات، بل هو وتيرة جديدة لترتيب أولويات السياسات الخارجية الأميركية في مواجهة ما يُنظر إليه من محاولات لتقويض حقوق الأميركيين. هذا المزيج من الأبعاد الأمنية والاقتصادية يجعل القرار جزءًا من استراتيجية دبلوماسية أوسع تهدف إلى إعادة ترتيب العلاقات مع الصين وهونغ كونغ ضمن سياق المنافسة العالمية المتزايدة.
كما إن إلغاء التأشيرات وفرض معايير أكثر صرامة يحمل آثارًا متعددة على النظام التعليمي، فقد يُواجه الطلاب تحديات كبيرة فيما يتعلق بتأمين مكان دراسي في جامعات عالمية، مما قد يؤثر سلبًا على مساراتهم المهنية والبحثية. كما تعتمد الجامعات الأميركية على الإيرادات الناشئة عن الطلاب الدوليين لتعزيز البحث العلمي والبنية الأكاديمية، وقد يؤدي انخفاض أعداد الطلاب إلى تراجع في جودة البرامج التعليمية والبحوث.
سباق النفوذ .. بين القوة الناعمة والسياسة الأمنية  
ما يميز هذا القرار هو انتقال التعليم من كونه مجالًا أكاديميًا بحتًا إلى ساحة معركة دبلوماسية تمارس فيها الدول أساليب الضغط السياسي والاقتصادي. ففي ظل التوترات القائمة بين واشنطن وبكين، يُنظر إلى القرارات المتعلقة بتأشيرات الطلاب على أنها وسيلة لتحقيق أهداف أمنية داخلية وفي نفس الوقت كإشارة إلى إصرار الإدارة الأميركية على فرض معايير معينة في العلاقات الدولية.  
وفي المقابل، تشعر الصين بأن مثل هذه الخطوات تُستخدم للحد من نفوذها التعليمي والثقافي على الصعيد العالمي، وهو ما قد يؤثر سلبًا على التعاون في مجالات البحث العلمي والتبادل الأكاديمي بين البلدين. إن مثل هذا التنافس الذي يمتد من ساحة التعليم إلى ميادين السياسة والأمن قد يؤدي إلى تغييرات جذرية في طريقة إدارة العلاقات الثنائية مستقبلاً.
التعليم جزء من الصراع  بين أمريكا والصين   
إن مسار هذه السياسة يُشير إلى تحول في طبيعة العلاقات بين الصين وأمريكا، إذ يُمكن أن تصبح قضايا التعليم والتأشيرات جزءًا لا يتجزأ من الصراع السياسي والاقتصادي بين القوتين. وتتجه الأنظار الآن إلى كيفية تفاعل المجتمع الدولي، والمؤسسات الأكاديمية بالذات، مع هذه الخطوة التي قد تعيد رسم خريطة التنافس في العالم. سواء كان التغيير مدفوعًا بالاعتبارات الأمنية أم بالسياسة الاقتصادية، فإن مستقبل التعاون الأكاديمي قد يتخذ منحى جديدًا يُعيد تعريف العلاقات بين الدول في عصر تتزايد فيه الصراعات على القوة الناعمة والمعايير الأيديولوجية.
هذا ويُتوقع في المستقبل أن تشهد العلاقات بين الصين وأمريكا مزيدًا من التوتر في الميدان التعليمي، وقد تنشأ مبادرات دولية جديدة تهدف إلى تقوية البنى التحتية للتعاون العلمي والتنموي، في سبيل مواجهة الانقسامات وتقليل أثر الضغوط السياسية على نظام التعليم العالمي.

 

البحث
الأرشيف التاريخي