”النفق”
منعم السعیدي
قصة "النفق" هي قضیة رجل تم نفيه إلى مصر، لكنه قرر العودة إلى موطنه غزة لوجود زوجته وابنته هناك، فيقرر بمساعدة صديقه دخول غزة عن طريق النفق الترابي بين حدود غزة وصحراء سيناء..
نقدم هذه القصة القصيرة للقراء في عدة أجزاء، ونتمنى أن تتابعوها في الأعداد القادمة:
بصعوبة بالغة حاول تحريك يده اليمنى، شعوره بثقلها حال دون قدرته على أخذها يميناً أو يساراً، حاول، لكن دون جدوى، شعور بالتعب اخترق إدراكه مع تصاعد صوت أنفاسه المتسارعة المتعثرة بالتراب الجاثي فوق وجهه ،و على صدره وفي كل مكان حوله، أخذ نفساً من داخله، ليستجمع قواه ويتحرك، شعر أن هناك مسافة تفصل بين يده وجسده أراد أن يمضي في تلك المسافة ليعرف ما الذي حدث أو ما الذي قد يحدث.
المسافة ضائعة في إدراكه، الظلمة تحول دون تقديره لها، لم يستطع فتح عينيه أبداً كي يستطيع تقدير تلك المسافة، ركامٌ ثقيلٌ يفصله عن كل قطعة في جسده، يحبس أنفاسه المتهالكة مستجمعا بعض قوته لرفع يده من تحت تلك الحجارة المغمورة بالتراب، وبصعوبة استطاع تحريرها من ضعفها، لكن طيّها كان صعباً جداً، فالجرح بين معصمه ومفصل يده كان ينزف ببطء، رفعها رغم الالم و قربها من وجهه ليمسح بها عيناه علّه يستطيع فتحهما، لكن الأمر ازاد سوءاً، فالدماء التي غطت يده امتزجت بالتراب على وجهه ليصبح مزيجا سميكاً من التراب والدماء.
حاول رفع يده اليسرى، كان الألم يشدها نحو اتجاه آخر، شيء من التقطع في حركتها الطبيعية، و كأنّ حفراً صغيرة استقرت في أوردتها منعتها من أن تكون جزءاً واحداً، شدها بصعوبة، رفعها لتقترب من وجهه أكثر ومسح عينيه جيداً، حتى أحدث بهما شقاً صغيراً يفصل أجفانه عن بعضها، مبهر ذلك البصيص الذي تسلل إلى حدقته الضيقة، أغلق عينيه مرة أخرى ليستطيع تحمل ذاك الوميض الآتي من فتحة صغيرة فوقه، لحظات ثم فتح عينيه لينظر، مدّ جسده قليلاً بحركة بطيئة، و حرك رأسه باتجاه الأعلى فانهال مزيد من التراب على رأسه، أغلق عينيه، وحاول سحب قدميه نحو جسده، شعر أنهما عالقتين أيضاً، كانت قدمه اليمنى أكثر ثقلاً من اليسرى، حاول إجبارها على التحرك فأخذت ترتعش تحت الركام، ليشعر بمزيد من الألم فيها، وضع يديه عليها لتستكين قليلاً، إلا أن تلك الرعشة أخذت تتسلل إلى جسده كله، حاول أن يهدأ، أن يفكر ليعرف أين هو وما الذي حدث، ما هذا المكان، وكأنه صار خارج الزمن الذي يعرفه.
إنه لا يشعر بالألم، بقدر ما يشعر باحتراق داخل قلبه، وكأن النبض توقف، أراد التأكد فوضع يده اليسرى على قلبه، لحظات لم يسمع فيها صوتا لتلك الضربات التي ستعلن حياته، شهق متوجساً خائفاً وقد تسارعت أنفاسه،أغلق فمه ليكتمها فجأة ويصيخ سمعه و ينصت جيداً...
دقة...دقتان... ثلاث دقات ... أجل ... إنه صوت النبض الذي يحصي بوجوده عدد خيباته وآلامه.
مدّ قدميه مجدداً، وقد تخدرتا تماماً، ليزحف جسده قليلاً باتجاه الأعلى، شد ظهره ليستطيع تحريك جسده، ألم آخر استيقظ فيه، وضع يده على خاصرته اليمنى، شد بيده كثيرا عليها وكأنه يريد إسكات هذا الألم الذي ازداد بمجرد ملامسته له، حنى ظهره للأمام ليرخي تلك العضلة المصابة على نفسها، لكن دونما فائدة، مد يده ممسكاً بقميصه محاولا شده عن جسده في محاولة مستميتة لتمزيقه ليضمد به جراحه.
عدة محاولات نجح بعدها في تمزيق قميصه إلى قطع مختلفة الأحجام، وضعها قربه، و أمسك إحداها بأسنانه من جهة وبالجهة الأخرى أمسكها بيده اليسرى ليلف بها جرح يده اليمنى ويربطها جيداً .
كلما تحرك كانت الرمال تنهال على كتفيه العاريين و تملأ قميصه الداخلي وتجرّح جسده، أمسك بقطعة قماش ممزقة وحاول مستخدما كلتا يديه لف خصره بها ليغطي جرح خاصرته، إلا أن القطعة كانت قصيرة، تمتم ببضع عباراتِ شتيمةٍ غير مفهومة على عجل لينفس عن غضبه وألم جراحه الذي زادها الجهد دونما فائدة، ألقى بقطعة القماش واختار أخرى تلمسها ليتأكد من طولها، ثم لفها حول خصره، وشدها كثيراً بقدر استطاعته، ورغم ذلك ظل يشعر بالدماء التي تبللها
من أثر الجرح.
تنفس الصعداء ما أن فرغ من مهمة تضميد جراحه، استرخى بجسده للحظات إلا أنه شعر بأن التنفس صار أصعب، فأصبح يتنفس بطريقة أسرع وكأن الهواء الآن يدخل إلى صدره ويخرج محصور المساحة داخل رئتيه، عاد ليضع يده على قلبه يحتسب دقاته، صار صوت نبضه أعلى، وضرباته تتسارع، وكأنه يركض في شارع طويل، طويل وهو متعب، متعب .
رفع رأسه لينظر إلى تلك الفتحة فوقه، مدّ يده إليها، سحب جسده إلى الأعلى رغم الألم، سحبه ليرتفع قليلاً وكلما تحرك كان التراب ينهال عليه حوله،وضع يده على الجدار خلفه و رفعها رويداً رويدا، فبدأ الحصى ينهال مع التراب ويخدش ظهره من تحت قميصه الداخلي،لكنه لم يكترث، الفضول كان سيد الموقف الغريب.
سمع صوتاً خارج المكان ، ظن أنه ربما يجدُ مُساعداً ينقذه من هذا الركام.
يُتبع...