كاتب وناقد لبناني للوفاق:
الحرب الناعمة.. غزو فكري للمجتمعات وتدمير للهوية
منذ أن شكّلت الحرب الناعمة استراتيجيّة سياسيّة للولايات المتحدة، صارت تسعى عبر وسائل وأدوات متعدّدة لفرض سيطرتها على الآخرين والترويج للنمط السلوكيّ والقياديّ الأمريكيّ. وقد وجد الأمريكيّ في الحرب الناعمة، الطريقة المُثلى لإخضاع الآخرين والسيطرة على عقولهم، لذلك كان يفهم الحرب الناعمة على أنّها القدرة على تغيير رغباتهم وجعلهم يريدون ما يريد، وهذه الحرب تُعد صامتة بطبعها، فلا يُسمع فيها هدير الطائرات وأزيز القذائف ولا حتى أصوات توغل المشاة، أي أنها لا تُحدث ضجيجاً. وبالتالي هي متفلتة من القانون الدولي الذي يدور في إطار حل النزاعات ومفاوضات السلام والهدنة ووقف الأعمال الحربية، بل هي «جيل جديد» من الحروب يتسم بالضبابية والتعقيد. وفي سياق التعرف على الحرب الناعمة وأهم أساليبها في اختراق المجتمعات العربية والإسلامية ومحاولاتها في فرض الثقافة ونمط الحياة الغربي على هذه المجتمعات ، وكونها تعد سلاحاً هادماً للمجتمعات وثقافتها، حاورت صحيفة الوفاق الكاتب والناقد اللبناني الأستاذ أحمد فخر الدين، وفيما يلي نص الحوار:
سهامه مجلسي
أصعب الحروب وأخطرها
يؤكد الكاتب فخر الدين بأن هذه الحرب هي بالمبدأ حرب عقول وتستهدف تغيير المفاهيم عند الخصم، ولذا فإنها تتطلب العمل وإعداد الخطط والبرامج، وكذلك إعداد النماذج الجذابة لدفع الخصم إلى تقليدها برغبة منه، وبعيداً عن الاكراه، ومن المعلوم أن هذه الأمور تتطلب وقتاً وجهداً لإنجازها ووضعها موضع التنفيذ، كما أن الكوادر والآليات المطلوب إعدادها للقيام بهذه بهذه المهمة تتطلب جهداً ووقتاً اضافياً، إذ أنها تصنف ضمن الحروب الطويلة الأمد للوصول إلى النتائج المطلوبة.. وتحتاج إلى نفس طويل ولا يمكن حرق المراحل فيها كالحرب العسكرية على الجبهات فتفريغ المفاهيم والقيم من ذهن المستهدف كمرحلة أولى ثم زرع مفاهيم وقيم أخرى مغايرة كل ذلك يدلل على المصاعب التي تكتنف هذا النوع من الحروب".
ويشير الكاتب فخر الدين إلى أنه:" عادة كانت الحرب العسكرية هي سيدة الحروب وأصعبها كما الحروب الإقتصادية، هل يمكن القول إن الحرب الناعمة هزمت الحرب العسكرية والاقتصادية، ليس كذلك تماماً، وإلا لما كنا لا نزال نشاهد الحروب التقليدية العسكرية لأسباب اقتصادية وغيرها تفتك بالعالم وتستمر بأخذ المجتمعات إلى النتائج المأساوية والمدمرة، لكن يمكن القول إن الحرب الناعمة قد تكون عاملاً مساعداً على إنجاز المهمات العسكرية بسرعة أكبر وبدون أثمان وتكاليف باهظة، وأكبر مثال على إن الحرب العسكرية لم تهزم وهي مستمرة، إن المجتمع الأمريكي الذي تبلورت فيه فكرة الحرب الناعمة مازال يعتمد شن الحروب العسكرية ودعم الدول التي تدور في الفلك الأمريكي بالسلاح ومتفرعاته لإرتكاب المجازر والتدمير والتهجير للوصول إلى مآربه وحرب غزة حالياً أكبر شاهد على ذلك."
حرب العقول
يعتبر الكاتب فخر الدين بأن:" الحرب الناعمة هي حرب العقول ومثالها في عصرنا ما قامت به شبكات التواصل الاجتماعي من دور ممهد ومواكب لما سمي بثورات الربيع العربي إذ عملت على قصف العقول بوابل من الأفكار والمفاهيم المنحرفة وذلك بعد إفراغها من المفاهيم التي كانت سائدة لديها وعملت شبكات التواصل مدعومة بإعلام أجنبي وعربي موجه وأموال سخية على زعزعة هذه المفاهيم قبل انتزاعها وإحلال مفاهيم وقناعات أخرى محلها، أما اختلاف الحرب الناعمة عن الحرب التقليدية فإنها بدرجة أولى تستهدف الوعي وتخاطب الذهن وتكون طويلة الأمد حيث تتطلب وقتاً لإقناع المستهدف بالتخلي عن هويته وسلوكياته الطبيعية واستلهام هوية وسلوكيات أخرى، هذا بينما الحرب التقليدية تكون سريعة الأمد تتطلب التحشيد ومن ثم تجري بسرعة قياسية، كما تختلف الحرب الناعمة بأنها غالباً مضمونة النتائج عكس العسكرية التي لا ضمانات فيها وتكتنفها المفاجآت، كذلك فإن الحرب الناعمة قابلة للإستمرار عبر الزمن بينما العسكرية تتوقف بمجرد ظهور النتائج وإلقاء السلاح عند الفريق الخاسر، وتعتبر الحرب الناعمة أخيراً مضمونة الربح دون تحمل خسائر غالباً بينما الحرب التقليدية تحمل في طياتها وفي نتائجها الكثير من الخسائر المادية والإنسانية."
الحرب الناعمة وجيل الشباب
يشير الكاتب فخر الدين بأن هذه الحرب تعتمد غالباً على التقنيات الحديثة لشنها وبث أفكارها والعمل على تحقيق خططها، ومعلوم أن هذه التقنيات قد تطورت بشكل مذهل مع نهايات القرن العشرين واستمرت في قفزات نوعية مع الربع الأول من القرن الواحد والعشرين، هذه التقنيات الحديثة التي درست في الجامعات كان أول من تلقفها جيل الشباب، فكان من الطبيعي أن تعتمد تقنيات الحرب الناعمة هذه على جيل الشباب في تشغيلها وتسويقها، فالتواصل الحديث بأجهزته المختلفة من الهاتف النقال والكمبيوتر مدعوماً بالشبكة العنكبوتية والتواصل عبر الأقمار الصناعية، كُل ذلك يشكل العصب الرئيسي للحرب الناعمة يقوده جيل الشباب، وكنموذج على ذلك نذكر الوحدة ٨٢٠٠ لدى العدو الصهيوني والتي لا تقوم بمهام عسكرية أو قتالية بل مهمتها الأساسية استخبارية وفي مكانٍ ما تقود حرباً ناعمة، هذه الوحدة جل العاملين فيها من جيل الشباب ذكوراً وإناثاً وهم من المتمرسين بشكلٍ خاص بالحرب الالكترونية وحتى إن الأسماء التي يطلقونها على أنفسهم في عالمهم الافتراضي تتناغم مع الخصم المستهدف لتسهيل إلتقاط الهدف والإيقاع به".
تقنياتها وأساليبها
يلفت الكاتب فخر الدين بأنه :" من تقنيات الحرب الناعمة وأساليبها، تقديم النموذج الذي يرى فيه المستهدف أنه الصورة والمثال الأجمل الذي يطمح بالوصول اليه مثال ذلك لعبة باربي التي تحولت إلى أيقونة نموذج للفتاة الأمريكية التي تطمح كل فتاة أن تكون مثلها جمالاً وكمالاً وثقافة ونمط حياة ومن الأنماط التي تقدم ضمن تقنيات الحرب الناعمة نموذج الكاوبوي والذي يمثل الأمريكي المتقدم والذي يتغلب على خصومه لأنه يمتلك كل مقومات القوة والكمال والشجاعة وكذلك الرجل العنكبوت وقدرته على تذليل الصعاب والتسلق والطيران وتفادي المخاطر والوصول إلى أهدافه بسرعة. إنها صورة الأمريكي المتفوق الذي يمتلك السلطة والقوة والذكاء والتميز في نمط حياته، في لباسه وأكله وعاداته لإغراء الآخر ليحذو حذوه بطريقة حياته واستلهام أفكاره، وهكذا يكون دور الإعلام الموجه ودور صناعة الأفلام والمسرح والسينما في توجيه الخصم إلى نقاط القوة التي يمتلكها من يقوم بالحرب الناعمة ويعمل على أن يرغب المستهدف في تقليدها. يرافق ذلك إطلاق موجات من الأكاذيب وتشويه الحقائق وتسخيف وتحطيم نقاط القوة التي يمتلكها الخصم كالتوجه إلى المعتقد الديني وتشويهه بإبراز وتضخيم أخطاء رجال الدين ومساوئهم باعتبارهم الناطقين باسم الله على الأرض لينسحب ذلك على المفاهيم الدينية وكذلك محاصرة البيئة الحاضنة وعزلها".
مواجهة الحرب الناعمة
هذا الأمر يعود إلى طبيعة الفرد أو المجتمع المستهدف، فالمجتمع الذي يسود فيه التخلف والجهل من السهل اصطياده وانكساره في هذه المعركة، وفق الكاتب فخر الدين ويتابع حديثه بالقول:" فينقاد ويؤخذ بالمغريات التي تتقنها الحرب الناعمة، وخصوصاً عندما تتطلع هذه المجتمعات الرخوة والضعيفة المناعة إلى الحياة المرفهة والإغراءات المنظورة عند المجتمعات المتقدمة والتي تنطلق منها سهام الحرب الناعمة وتمتلك أساليبها وأدواتها المتقدمة. لكن هذا الأمر ليس صحيحاً بالمطلق إذ أنه لا ينطبق على الكثير من المجتمعات التي حققت نصيباً جيداً من التقدم والتي تضاهي أو تزاحم تقنياً وعلمياً دعاة الحرب الناعمة، هنا على أضعف الإيمان الحرب الناعمة لا تؤتي ثمارها المثلى بالطريقة التي يرغب بها الخصم".
أما عن خطورة هذه الحرب فيؤكد الكاتب فخر الدين :"على أنها أولاً تعمل على سلب هوية الإنسان ليصبح بلا هوية، وتسمى هذه بمرحلة التفريغ وفي هذه المرحلة يصبح المستهدف كفاقد الوعي والتوجه وفي مرحلة تالية يلجأ الخصم الى تعبأته بالأفكار والمفاهيم التي يريدها والتي تنسجم مع أفكاره ومفاهيمه هو ليتحول المستهدف بسهولة إلى نسخة مماثلة للخصم، لذا أحد مخاطر هذه الحرب أنها لا تقضي على أفراد فحسب في ساحة المعركة بل تقضي على مجتمع بأكمله، ولا ننسى أن من مخاطرها أنها حرب غير محسوسة وليس من السهل اكتشافها، ولا يمكن الشعور بها إلا بعد تحقيقها الهدف."
مستقبل الحرب الناعمة
يرى الكاتب فخر الدين في ختام حديثه بأن :" الحرب الناعمة لن تنتهي كقوة تعمل على اللعب على المفاهيم والعقول، وهي ستبقى فعالة ولكن إلى جانب الحرب الصلبة بصورتها العسكرية التقليدية التي أظهرت الدول الاستعمارية الكبرى عدم تخليها عنها في فرض مشاريعها وهيمنتها على الشعوب والدول الأخرى لأسباب اقتصادية وسياسية عديدة، ومن نافل القول إن الدول المستعمرة تحمل معها ثقافاتها لتفرضها على الشعوب المستعمرة كنوع من لي الذراع الذهني والمفاهيمي لهذه الشعوب والاستثمار فيه، ويبقى أن الحرب الناعمة ستأخذ أشكالاً أكثر تطوراً تبعا لتطور شبكات التواصل الاجتماعي ومنصاتها التي تشكل الهيكلية الأساسية لفعالية هذه الحرب".