في يوم تكريم الأسرى والمفقودين الإيرانيين:
عاشوراء خلف القضبان: انتصار الإرادة على الأسر
ظن الأمويون أنهم استطاعوا النيل من النبي الأعظم (ص)، بمقتل سبطه الإمام الحسين (ع) وأصحابه وذريته، وحسبوا أن يدهم قد بسطت على هذه الأمة، وأنهم بقتل الإمام الحسين (ع) أصبحوا قادرين على فعل ما يشاؤون، دون أن يردعهم رادع، أو يمنعهم مانع، فرفعوا من مستوى نكايتهم بذرية رسول الله (ص) وسبوا نساءهم، كما تُسبى نساء الأعداء.
لكنهم لم يدركوا أن في ذلك بداية فضحهم أمام الملأ، وأن ذاك السبي، وإن كان إذلالاً لبنات الرسالة بحسب الظاهر، إلا في حقيقة الأمر، كان ثمرة مباركة من ثمرات الحركة الحسينية، وشرط أساسي لإعمال مفاعيلها، وإنجاحها على المستوى الإعلامي العام، وبيان أكذوبة الأمويين في انتمائهم إلى الإسلام، عبر مواقف الإمام زين العابدين (ع)، والحوراء زينب وأم كلثوم، وغيرهم من أهل بيت النبوة، وكان السبي مضافاً إلى قتل الإمام الحسين (ع) أثراً بالغاً في تثبيت الحق، وإعادة الرونق والأصالة إلى دين الإسلام، بعدما كادت دعائمه أن تنهار في عالم النسيان والإهمال.
بداية رحلة السبي
لقد بدأت مهمة السيدة زينب(ع) منذ استشهاد الإمام الحسين (ع) عصر يوم عاشوراء عام 61هـ على أرض كربلاء مخضباً بدم الشهادة. لم تكن رحلة السبايا من أهل بيت النبوة، شبيهة بمثيلاتها من سبايا الحروب، بل فاقت كل التوقعات في الفظاعة والهمجية، رغم انتساب خصومهم، وفق الظاهر، إلى دين جدهم رسول الله محمد (ص)، إذ أمر "عمر بن سعد" بحمل الركب الحسينيّ من بنات النبوّة على إبل بلا وطاء ولا غطاء ثمّ مر الركب الكئيب على الجثامين الطاهرة في كربلاء حيث وقفت العقيلةُ المكرمة زينب بنت أمير المؤمنين(ع) على بدن أخيها الإمام الحسين (ع) وصاحت "وامحمّداه صلّى عليك مليكُ السماء هذا حسين بالعراء مرمل بالدماء مقطَّع الأعضاء وبناتُك سبايا وذرّيتك مقتّلة".
وهكذا بدأت رحلة السبايا بعد ظهر يوم الحادي عشر من المحرم، إذ قام عمر بن سعد بالرحيل عن كربلاء بركب السبايا وهن عشرون امرأة وما يقارب من ثمانين طفلاً وطفلة، إضافة إلى الإمام السجاد (ع) بعمر ثلاث وعشرين سنة والإمام الباقر(ع) بعمر سنتين وأشهر في بداية رحلة السبي بعدما قام عمر بن سعد بدفن أجساد قتلى الجيش الأموي وترك جسد الإمام الحسين(ع) وأجساد الشهداء معه ملقاة على تراب كربلاء. وبتلك المحطّة ابتدأ فصلٌ آخر من فصول عاشوراء الدامية، الذي كانت السيدة زينب(ع) هي قطبُ الرحى فيه.
وفي هذا اليوم أطلقت الجمهورية الإسلامية على يوم الحادي عشر من محرم تسمية "يوم الأسرى والمفقودين" والذي يتزامن مع المعاناة الأليمة لسبي آل بيت النبي(ص) تكريماً لأسرى حرب الدفاع المقدس المفروضة على الجمهورية الإسلامية تكريماً للأسرى والمفقودين، الذين ضحوا بحريتهم في الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية والتي استمرت ثماني سنوات دفع شعبها أغلى الأثمان لنيل الحرية وطرد العدو لإبقاء إسم إيران متألقاً وعالياً. من هؤلاء كان الأسرى الذين باتباعهم قافلة أسرى عاشوراء، خلقوا الحرية في الأسر وأهانوا العدو المنافق.
في هذه المقالة سنتحدث عن كيفية إحياء هؤلاء الأسرى لمراسم عاشوراء في سجون نظام صدام البائد:
صنع النموذج المصغر من ضريح أبا عبد الله الحسين(ع) في معسكرات العدو
إن تحمل المعاناة والمصاعب في معكسرات نظام صدام البائد تمثل إنجازاً آخر وملحمة للمجاهدين في حرب الدفاع المقدس بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية وهذا النظام، فلم يستسلم الأسرى في مطالب وقيود هذا النظام فحسب، بل حاولوا أيضاً أداء الواجبات الدينية وإقامة مراسم العزاء في أيام محرم في معسكراته، يتذكر أحد أسرى الحرب المفروضة أجواء هذه المعسكرات:"... رغم كل المشاكل قررنا صنع النموذج المصغر من الضريح المقدس للإمام الحسين(ع) إحياءً لأيام العزاء، كان يجب أن يتم ذلك سراً وبعيداً عن أنظار المسؤولين العراقيين، وألا يعرف بذلك أحد حتى الشخص المسؤول عن السجن. ولتحقيق ذلك، احتجنا إلى الكثير من المعدات التي لم تكن متوفرة، الكل تطوع للقيام بعمل ما؛ كان أحد الإخوة يبحث عن علب فارغة، والآخر يجمعها والآخر يحولها إلى أنابيب، وكان العديد من الأشخاص يأخذون المقص من مدير المستودع بذرائع مختلفة حتى لا يشك أحد فينا. عملنا لمدة خمسة أيام سراً، وبهمة عالية ومثابرة من جميع المشاركين، وما إن شارف عملنا على الإنتهاء، اشتبه بنا مدير المستودع، فقام بإبلاغ مدير السجن قائلاً: على ما يبدو، هذا السجن يجهز معدات خاصة".
ويكمل الأسير كلامه بالقول:" كنا نركب النموذج المصغر من الضريح عندما دخل المسئول عن السجن ورأى النموذج المطابق وقال: إذا اكتشف جنود العدو ذلك، سنُحرم من أهم البرامج التي ننفذها سراً. لذلك علينا تدميره، فمن الممكن أن يتعرض الكثير من الشباب لمضايقات إذا أعلنا عن النموذج عبر تثبيته وفي ليالي محرم جميعها، فتقرر بعد إصرارنا ووساطة أحد الإخوة القدامى في السجن تخريب النموذج بعد إحياء ليلة واحدة من عاشوراء"
في الوقت نفسه وأثناء حوارنا حول النموذج أطلق الصداميون الصفير إنذاراً لتشكيل الطوابير، كنا قلقين ومتضايقين، ماذا سيحدث لو قدموا إلى السجن للاستجواب؟ وشاهدوا النموذج المصغر للضريح، واكتشفوا ما قمنا به، حينها لا مفر من تعذيب الأسرى ومضايقتهم. متوكلين على الله تعالى خرجنا للمشاركة في الطوابير، ولحسن الحظ لم ينفذ الحراس عمليات تفتيش للسجن، وعدنا إلى السجن سالمين. وبهدف مفاجأة الإخوة الآخرين، أخفينا النموذج المصغر للضريح المقدس خلف ستارة ، وقام البعض بتركيب عدد من الصور للشهداء، وبعد أداء صلاتي المغرب والعشاء أزيلت الستارة وسيطرت أجواء خاصة على الشباب بعد رؤيتهم النموذج المصغر، وكأنهم قد زاروا الإمام الحسين(ع)، تبادرت إلى أذهانهم ذكريات التوجه إلى العتبة المقدسة. تجولنا حول نموذج الضريح المقدس في مجموعات و قرأنا زيارة عاشوراء، حزناً وندباً، واستمر البرنامج حتى الدقائق الأخيرة من الليل. كان البرنامج عظيماً. طلب الإخوة منا تنفيذ البرنامج للسجون الأخرى أيضاً، ولكن وفقاً للوعد الذي قطعناه لمدير السجن، فقد قمنا بتخريب النموذج المصغر بعد الإحياء".
إحياء المراسم سراً
حاول نظام صدام البائد وهو يرى حالة الأسرى ومعنوياتهم وتأثير العزاء في شهر محرم عليهم، التأكيد لهم أن حالاتهم ومشاعرهم بلا قيمة، على سبيل المثال، رأى أحد الضباط الإخوة يبكون وحزينين وقال: "لماذا تبكون؟ دعونا الإمام الحسين(ع) وقتلناه. لا علاقة لكم به ثم ضحك بصوت عالٍ. وقام ضابط أخر بالدخول إلى السجن كل يوم من أيام عاشوراء مرتدياً لباساً باللون الأحمر، ويقف أمام المجاهدين ويقول باشمئزاز: لقد قتلتم حسين أيضاً. ماذا تقولون الآن؟ مثل هذه الحركات لم تكن متوقعة حقاً إلا من هؤلاء اليزيديين المتوحشين"
ويلفت الأسير إلى أنه:" ولكي نكون في مأمن من اضطهادهم، تعهد عدد من الإخوة خلال مراسم العزاء بإلهاء حراس البعث بذرائع مختلفة حتى لا يلاحظوا مراسم العزاء. كان بعض الإخوة يعزفون على قطعة قديمة أمام باب السجن، لجذب الانتباه عن إقامة مراسم العزاء داخل السجن، ولكي يكون الإخوة داخل السجن مرتاحين للقيام بالمراسم".
وكذلك قام آخرون وفق رواية الأسير :" وممن يجيدون اللغة العربية بإلهاء الحراس بقراءة القصائد والقصص العربية، وقام بعض الإخوة الرياضيين بالتنافس بالألعاب الرياضية مع الحراس لإبقائهم مشغولين لساعات، باختصار، فعل الجميع ما في وسعهم للمساعدة في إقامة مراسم إحياء ليالي عاشوراء وإلهاء الحراس. لكن في الفترة الأخيرة، بما أن الجنود لاحظوا حيل الأخوة فقد تضاعف عددهم مع حلول المحرم ؛ إذ كان لكل سجن ضابطان وكانوا يراقبون السجن بشكلٍ دائم لمنع أي أي أسير من البكاء على الإمام الحسين (ع).
ويكمل الأسير:" في أحد تلك الأيام، عندما كان الحراس يحرسون الباب الأمامي للسجن، قررنا إقامة مراسم العزاء بخدعة جديدة. لذلك، بقي عدد من الإخوة داخل السجن لإلهاء الحراس، و اجتمعت مجموعة أخرى بعيدة عن الحراس في ساحة المعسكر، ويبدو أنها كانت تلعب في إطار حلقات، بينما كانت داخل دائرة هؤلاء الإخوة مجموعة من محبي أبا عبد الله (ع) يقيمون العزاء، و يا لها من عظمة كانت تسود مراسم العزاء".