التشكيل الفلسطينيّ... الثراء والتشظّي (2)
عمّار عبد الوهّاب
كاتب فلسطيني
بلا شك إنّ تلك الفترة شهدت انتعاشاً للّوحة الفلسطينيّة وزخماً يوازي هذا الانقلاب التاريخيّ في حياة الشعب الفلسطينيّ، وبدا أنّ مجال هذه اللوحة على صعيدي الشكل والمضمون مفتوح على أفق واسع، ومنفتح في ذات الوقت على تجارب جديدة بدأت تتسرّب إلى نهر حركتنا التشكيليّة الناشطة. بدا أنّ مجرى آخر لهذا النهر بدأت مياهه الّتي لم تتوقّف تجري بوتيرة أسرع، وبدا أنّ الاستعمار الصهيوني غير قادر على وقف جريان الحركة التشكيليّة الفلسطينيّة في الأراضي المحتلّة عام 1948.
دفعت ظروف الاستعمار فنّاني الأرض المحتلّة إلى التناول غير المباشر للموضوعات الوطنيّة، ممّا أضفى تنوّعاً كبيراً على تلك التجربة، وربّما فاق حجم الاستخدام الرمزيّ للوحة في الأرض المحتلّة مثيلاتها في الخارج، وجرى توظيف الموتيفات الشعبيّة والتراثيّة بكثافة واضحة، وفي إطار من المعالجات التشكيليّة المتوازنة على وجه العموم. من هنا بدأ شيوع الزخارف الفلسطينيّة ووحدات التطريز في اللوحة الفلسطينيّة المعاصرة.
إضافة إلى ذلك، فقد تمّيز فنّانو الأرض المحتلّة بالتعامل الفنّيّ مع البيئة الفلسطينيّة بشكل مباشر، الأمر الّذي كان عصيّاً على فنّاني الخارج، حيث جرى تناول تلك المواضيع في لحظة ثباتها كصورة علقت في ذهن الفنّان منذ زمن الطفولة أو الشباب المبكّر، ذلك ما نلمسه في أعمال عبد الحيّ مسلّم، وإبراهيم هزيمة، وإبراهيم غنّام، وآخرون.
الواقع الراهن للحركة التشكيليّة الفلسطينيّة
مع بداية السبعينات، بدأت تتنامى أعداد الفنّانين التشكيليّين الفلسطينيّين، لتصل إلى المئات، ولنبدأ معها مرحلة جديدة لا تستند إلى الكمّ فقط، إنّما جرى تنوّع في المنتوج الفنّيّ أيضاً. إنّ دراسة تقريبيّة لواقع الفنّانين الفلسطينيّين تشير إلى أنّ عدد دارسي الفنون الجميلة بفروعها المختلفة يصل إلى حوالي 600 خرّيج، نالوا تعليمهم في 26 بلداً عربيّاً وأجنبيّاً، وتوزّعت دراستهم على 63 أكاديميّة ومعهد ومدرسة عليا، ويتوزّع هذا العدد من حيث الإقامة على 35 بلداً على وجه التقريب.
إنّ تلك الإحصائيّة التقريبيّة والّتي تعكس حالة الشتات الفلسطينيّ، قد تركت تأثيرات متباينة على الحركة التشكيليّة الفلسطينيّة، لا يمكن رؤية وجهها السلبي فقط وإغفال بعض الإيجابيّات الّتي رافقت هذا التنوّع الأكاديمي والجغرافي.
إنّ طيفاً واسعاً من التيّارات التشكيليّة المعاصرة بدأ يلوح في أفق الفنّ الفلسطينيّ، حمل في تدرّجاته نضوجاً على مستوى الوعي الإبداعيّ لدور الفنّان الفلسطينيّ، والبحث في علائق جديدة بين متطلّبات اللوحة كعمل إبداعيّ يعكس ثقافة لها ديمومتها الحضاريّة، وبين اللحظة السياسيّة الراهنة.
إنّ ذلك البحث الجديد لا يعني تجاوز الواقع ومتطلّباته، ولكن دونما الاتّكاء عليه بخمول واكتساب مشروعيّة العمل الفنّيّ من كونه يعبّر عن قضيّة عادلة فقط؛ فالقضيّة العادلة بحاجة إلى لوحة تتميّز بالإبداع والتأثير كي تشكّل دافعة حقيقيّة لهذه القضيّة على المستوى الثقافيّ والحضاريّ.
إحصائيّات المشهد الفنّي
إنّ إعادة التقييم تلك فتحت الأبواب واسعة أمام تيّارات جديدة في التشكيل الفلسطينيّ المعاصر، ليعيد صياغة رموزه الّتي اكتسبها من موروثه التراثيّ والتشكيليّ المتراكم، ولكي يتعامل بتقنيّات متطوّرة على صعيد العمل الفنّيّ وإفساح المجال لإبراز القيم الجماليّة لهذا العمل.
إلّا أنّ تشظّي تلك الأعداد من الفنّانين الفلسطينيّين بحكم الواقع الفلسطينيّ نفسه، حال دون خلق حالة تفاعليّة في ما بينها، فأضحت وكأنّها في جزر منفصلة عن بعضها البعض، خفّف من قسوة واقعها وجود الاتّحاد العامّ للفنّانين التشكيليّين الفلسطينيّين، الّذي لعب دوراً مهمّاً في لحظة زمنيّة قصيرة كرابط بين فاعلي ومنتسبي هذا الاتّحاد.