ثورة الإمام الحسين (ع) ثورة إنسانية وإصلاح مجتمعي
الوفاق/ خاص
د. محمد الحوراني
رئيس اتحاد الكتاب العرب
بالرغم من أن ثورة الإمام الحسين(ع) كانت ثورة ضمن البيئة الإسلامية في انطلاقتها الأولى، إلا أنها امتدت على نحوٍ عالمي، كيف لا وهي ثورة إنسانية ومجتمعية شاملة، ثورة ضد الظلم والجور. وهي بهذا المعنى ثورة تاريخية حملت في ثناياها أزلية الاستمرارية، تماماً كما هي أزلية وجود الظلم والفساد، وأزلية الرغبة بتحقيق الإصلاح، ولهذا فقد حملت هذه الثورة مضامين الإصلاح وآلياته، واضعة الفساد تحت مجهر الإصلاح ومحاولة وضع حد لهذا الفساد الذي استشرى في النظام السياسي والمجتمعي، ولهذا فقد تجاوزت حدود الزمان والمكان وغدت ثورة إنسانية أخلاقية عالمية، تجاوزت الحدود المذهبية والدينية، وتحدث عنها الكثير من مفكري العالم، فها هو المستشرق الألماني ماربين يقول فيها : " قدم الحسين(ع) للعالم درساً في التضحية والفداء عبر التضحية بأعز الناس لديه ومن خلال إثبات مظلوميته وأحقيته، وأدخل الإسلام والمسلمين إلى سجل التاريخ ورفع صيتهما، لقد أثبت هذا الجندي الباسل في العالم الإسلامي لجميع البشر أنّ الظلم والجور لا دوام لهما وأن صرح الظلم مهما بدا راسخاً، وهائلاً في الظاهر إلا أنه لا يعدو أن يكون أمام الحق والحقيقة إلا كريشةٍ في مهب الريح"، لا بل إنّ هذه الثورة الإنسانية ألهمت أهم الزعماء في العالم ومنهم الزعيم الهندي غاندي الذي قال: " لقد تعلمت من الحسين(ع) كيف أكون مظلوماً فأنتصر ".
لقد أظهر الإمام الحسين (ع) بتضحياته وأخلاقه النبيلة الوجه الناصع للإنسانية ولم يكن هدفه سلطة دنيوية أو خلافة آنية، إنما كان الهدف الأسمى التأسيس لمّا يجب أن يكون من نظام سياسي وأخلاقي يُنهي الظلم ويضع حداً لمعاناة الإنسانية، لقد كان إصلاح المجتمع على رأس الأولويات عنده، وقد وضع الأسس الراسخة في كيفية الدفاع عن الحق وتأسيس الفكر المقاوم والنهج النضالي، وكان من أهم نصائحه لأبناء الإنسانية أن يتعالوا عن الصراع بسبب المصالح الشخصية والفردية، وأن يحافظوا على حقوق الإنسان، ويدافعوا عن حقوق المظلومين والمحرومين، ولهذا كانت التضحية التي قدمها أعظم حدث تاريخي أسس لانتصار الحق، من خلال المبادئ الإنسانية التي طبقها حتى مع خصومه، لا بل إنه امتلك فضيلة الإحسان حتى مع الأعداء، وهي ميزة لا يقدر عليها إلا الرجال والقادة الكبار، وكانت التضحية الإنسانية الأخلاقية التي امتلكها السبب الأهم في انتصار ثورته، تلك الثورة التي أرادت إصلاح الإنسان وصلاحه، إيماناً منه بأنّ النهضة الحقيقية لا تكون إلا بالإصلاح الجذري والإنساني الشامل والمتكامل، ولهذا كانت ثورته نهضوية إحيائية تسعى لتحقيق المبادئ والقيم الإنسانية والأخلاقية الثابتة، كما أنها كانت حفظاً للكرامة الإنسانية من غير تمييز بين من يختلف معه ومن يتفق معه، إنها عدالة أرادها أن تكون مع الصديق والعدو، وهي أفكار تشربها من مدرسة والده أمير المؤمنين (ع )عندما أوصاه قائلاً: " وبالعدل على الصديق والعدو " .
لقد جاهد الإمام الحسين(ع) في إصلاح الأمة انطلاقاً من الفرد إيماناً منه بأنّ الفرد هو القائد والبوصلة من خلاله تثبت الأمة وتكون متماسكة قوية، ومن خلاله تنهزم وتتراجع وتكون ضعيفة متهالكة، وبناءً عليه كانت همته على ترسيخ قيم العدل والشجاعة والإيثار والصدق والمساواة والتضحية والوفاء، كما أنه اختار الانحياز إلى الحق حتى الشهادة أو النصر، إيماناً منه بأنّ العاقبة ستكون للحق مهما طال الزمن وتكالب الأعداء، وعندما تكون الثورة نبيلة في أسبابها ومقاصدها فإنّ النصر سيكون خيارها مهما ادلهم الظلم وتجبر أهله "إني لم أخرج آشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، إنما خرجت لطلب الإصلاح"، ولذلك غدت ثقافة الإصلاح التي جاء بها ثقافة عامة صالحة لكل الأمم والشعوب، لأنها كانت ثقافة بعيدة كل البعد عن المذهبية والمصالح الضيقة، ثقافة أقرب ما تكون إلى الثقافة الإنسانية الشاملة، وانطلاقاً منه فإنّ أي ثورة ستكون محكومة بالفشل ما لم تتخلق بأخلاق تلك الثورة وتسترشد بها، وحينها يمكننا الحديث عن ثورات عادلة، ثورات إصلاحية تبتعد عن الأهداف الآنية وتقترب من إصلاح المجتمع وتحصينه.
ولأنّ هذه الثورة كانت بمثابة النهضة الإنسانية وفي سبيل الانسان، مهما كان مستواه الفكري والاجتماعي ومهما اختلف دينه ولونه وجنسه وقوميته وعاداته وتقاليده، فإنها غدت قريبة من وجدان الجميع، وقد لامست هموم وتطلعات كل انسان يسعى للحرية والانعتاق من القيود المصطنعة، لأنها كسرت حواجز السلطة والاستبداد، ومحت الخطوط الحمراء التي استهدفت الفقراء والمستضعفين.
إنّ ثورة كهذه، بأخلاقها ومثلها وقيمها الرفيعة، كفيلة إذا ماتم الاشتغال عليها بصدق، بالانتقال بالأجيال من حالة الترهل والانكماش إلى حالة الأصالة والنهوض والتغيير المجتمعي الجذري، ذلك أنها مازالت تصرخ عبر الأجيال قائلةً: كفانا هجرة واغتراباً عن الذات الأصيلة المشبعة بالقيم والمبادئ والأخلاق العملية لصالح تكريس أجواء التسطيح والتسليع في كل مظاهر حياتنا، داعيةً في الوقت نفسه للتفاعل المعقلن مع العالم الخارجي وما فيه من أفكار وتصورات وأحداث، ومؤكدةً على قراءة التراكمات والسياسات والموروثات التاريخية قراءةً واعية عبر آليات معرفية هادفة ومنظّمة ودافعة نحو فعل اجتماعي وإنساني مبدع وملم بروح العصر ومقتحم لميدان الحياة وضرورياتها وإشكالاتها وتحدياتها. إنّ استشراف المستقبل عند الإمام الحسين (ع) هو الذي دفع الكثير من الكتاب والباحثين للإفادة من نهجه الإصلاحي النهضوي في التأسيس للثورات ومحاولة إصلاح المجتمع، انطلاقاً من الأفكار والأسس النبيلة التي أرسى قواعها ورسخها في سبيل التأسيس لمجتمع الخير والحق والعدالة الإنسانية.