نموذج للمقاومة العصية
جنين ومخيمها ... تاريخٌ طويل من الصمود الفلسطيني
الوفاق/ يقول الشهيد باسل الأعرج في إحدى مقالاته "إنّ الفكرة، كل الفكرة أن لا تنكسر من الداخل؛ أن لا يصبح وجود العدو "طبيعياً، عادياً، يومياً، معاشاً". هذا ما تفعله جنين ومخيمها على الدوام، فهي باتت نموذجاً للمقاومة العصية على الهزيمة والخضوع لسلطات الاحتلال الصهيونية وحكومتها، فليس مصادفة أن يطلق عليها العدو "عش الدبابير".
جنين مدينة لم تستسلم لأي محتل منذ القدم
على مرّ التاريخ، كانت جنين المدينة الولّادة للمتميّزين، إذ أتقنت صنع أجيال لا يهنأ لهم العيش من دون مواجهة المحتل بكل شراسة، شكّلوا نواةً للفعل المقاوم في مراحل كثيرة. هذه المدينة التي يقطنها 40 ألف نسمة تُعَدُّ أكبر مدن المثلث الواقع بين جنين ونابلس وطولكرم.
وهي تقع عند سفح تلال نابلس الوعرة أو جبال النار كما أطلقوا عليها بعد أن أشعل السكان النار في بساتين الزيتون والغابات لوقف تقدم الجنود الفرنسيين عام 1799، عندما انتصر الفرنسيون في النهاية، أمر نابليون جنوده بإحراق ونهب جنين انتقامًا من مساعدتهم للعثمانيين.
بعد قرن من الزمان، استولى الحلفاء البريطانيون على جنين في سبتمبر/أيلول 1918 في أثناء الحرب العالمية الأولى، وأصبحت تحت حكم سلطات الانتداب البريطاني مع باقي أجزاء فلسطين، في هذه الفترة (1935م) نظمت أول مقاومة مسلحة بقيادة عز الدين القسَّام، أحد كبار المقاومين للاحتلال البريطاني آنذاك، الذي وجد في جنين حاضنة شعبية من الفلاحين تؤمن بالثورة وتدعمها. تحوَّلت المنطقة منذ ذلك الحين إلى مركز للمقاومة الفلسطينية الذي انتقلت قيادته بعد استشهاد القسَّام إلى فرحان السعدي، سليل إحدى الأسر المقاوِمة الذي نصبت مجموعته في 15 من أبريل/نيسان 1936 كمينًا لحافلة على طريق نابلس-طولكرم قرب جنين، قُتل راكبان يهوديان انتقامًا لمقتل الفلسطينيين على يد المنظمات اليهودية الإرهابية، وكانت تلك الحادثة شرارة بداية الانتفاضة.
في عام 1938 بعد يوم من اغتيال قائد بريطاني كبير بمكتبه في مدينة جنين، اجتاحت المدينة قوة بريطانية كبيرة تحمل المتفجرات والديناميت وفجرّت نحو ربع البلدة، انتهت الانتفاضة في 1939 عندما أصدر مسؤولو الانتداب البريطاني بيانًا (ورقة بيضاء) يعدون فيه بالحد من الهجرة االصهيونية إلى فلسطين وذلك بعد اغتيال أو اعتقال معظم قادة الانتفاضة الفلسطينية.
عندما احتل العدو الصهيوني عام 1948 م الإسرائيلي الأراضي الفلسطينية وقتلت العصابات الصهيونية الآلاف من الفلسطينيين واحتلَّت منازلهم، تخلَّصت جنين من احتلال قصير نال منها بفضل الدفاع الشرس من المتطوعين الفلسطينيين والجيش العراقي.
وفي العام 1949م آلت المدينة إلى حكم الإدارة الأردنية، وفي أوائل الخمسينيات أُنشئ مخيم جنين لإيواء مهجري النكبة ممَّن استولت إسرائيل على منازلهم بعد طردهم، وسرعان ما صار المخيم الواقع في ضواحي المدينة معقلاً للمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، خاصةً في السبعينيات والثمانينيات.
جنين معقل المقاومة
نادرًا ما يستخدم القادة الصهاينة وصف العصيب للحديث عن حدث خاضه كيانهم المؤقت، يحاولون بذلك ألا يمنحوا نصرًا معنويًا للمقاومة الفلسطينية وألا يخوفوا الداخل الصهيوني. لكن من المرات النادرة التي استخدم فيها رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق، أرئيل شارون، وصف «اليوم العصيب» كان عام 2002 م بعد معركة ضارية مع جنين.
مثّل عام 2002 م نقطة تحوّل بارزة في تاريخ المقاومة في المخيم، الذي كان على موعد مع معركة كبيرة ضد "جيش" الاحتلال الذي اقتحمت آلياته المخيم ودمّرته، وفي تفاصيل العملية التي أطلق عليها الاحتلال "السور الواقي"، فقد فرض جيش الاحتلال طوقاً عسكرياً على المنطقة، واجتاح مدينة جنين، وحاصرت آلياته المخيم من جميع الجهات، مدعومة بالطائرات المروحية، وآلاف الجنود المشاة الذين كانوا يتهيئون للمعركة، في أرجاء المخيم.
أطلق آنذاك رئيس وزراء الاحتلال أرئيل شارون على شهر مارس "آذار الأسود"؛ إذ قُتل فيه 105 من الصهاينة بينهم 26 جنديًّا، إثر العمليات الاستشهادية للمقاومة الفلسطينية، فما كان منه إلا أن أعطى الضوء الأخضر لاجتياح الضفة، متوهمًا بقدرته على إنهاء انتفاضة الأقصى. كان لجنين ومخيمها دورٌ بارز في قيادة المعركة، فقتل مقاوموها 40 جنديًّا صهيونياً، وأصابوا 140 آخرين، 13 منهم في يوم واحد في 9 أبريل/ نيسان في كمين محكم للمقاومة في المخيم. وتحت وقع الصدمة من سقوط عدد من الجنود، ارتكب الاحتلال على إثرها مجزرة في المخيم ارتقى فيها أكثر من 100 شهيد وفق مصادر فلسطينية، وجُرح 355 آخرون، جرى انتشال 57 منهم فقط، بينما نقل الاحتلال بقية الجثث ودفنها في الأغوار، بعد تجريف الاحتلال للمنازل ونسفها على ساكنيها باتباع سياسة "الأرض المحروقة".
جدعون ليفي: مخيم جنين لا مثيل له في التاريخ
"معسكر شجاع وحازم ومنظم جيدًا مشبع بروح قتالية، ربما لا مثيل له في التاريخ... الفروق بين مختلف المنظمات (الفصائل الفلسطينية) غير واضحة هنا. إنهم يتعاونون مع بعضهم البعض أكثر مما يفعلون في أي مكان آخر في الضفة الغربية وغزة". هكذا يصف الكاتب اليهودي جدعون ليفي المقاومة في مخيم جنين في مقاله في صحيفة "هآرتس" العبرية . بالرغم من الضربات التي وجّهها الاحتلال للمقاومة منذ الاجتياح حتى يومنا هذا، فإنّ الاحتلال لم ينجح في القضاء على حالة المقاومة. فقد أعاد اسم هذا المخيم الرعب في ذهن الاحتلال مع تنفيذ 6 أبطال من مخيم جنين عملية تحرّر فريدة من نوعها من سجن "جلبوع" في أيلول/سبتمبر من عام 2021.
وازدادت الأزمة الأمنية الصهيونية مع معركة "سيف القدس"، التي أنتجت تشكيل كتيبة جنين التابعة لـ"سرايا القدس"، الجناح العسكري لحركة "الجهاد الإسلامي"، كأول حالة عسكرية علنية منظَّمة في الضفة الغربية، وكتيبة حزام النار التابعة لكتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة "فتح"، الأمر الذي ساهم في ميلاد حالة مقاومة جديدة غير معتادة على الأجهزة الأمنية الإسرائيلية منذ انتهاء انتفاضة الأقصى عام 2005.
ختاماً إنّ أكثر ما يخشاه العدو الصهيوني هو استمرار تناقل أسماء المقاومين والشهداء وحكاياتهم البطولية بين أهالي المخيم لتصل إلى الجيل الحالي الذي تتشكّل منه هذه الكتائب، الذين يستلهمون من سير المقاومين السابقين طريقهم نحو الحرية والعمل المقاوم، ويعملون على تطويره، ثأراً لشهداء الاجتياح وغيرهم من الشهداء.