إستضافة إيران قادة المقاومة الفلسطينيّة.. قراءة في التوقيت والدلالات
شرحبيل غريب
كاتب ومحلل سياسي
استقبلت الجمهورية الإسلامية الإيرانية قبل أيام، وفي أعلى تمثيل دبلوماسي فيها، قادة المقاومة الفلسطينية السيد إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، والسيد زياد النخالة الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، استقبالاً حافلاً كاستقبال الزعماء ورؤساء الدول.
استضافة إيران قادة المقاومة الفلسطينية يأتي في وقت تتواصل الاعتداءات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني ومقدساته وتتصاعد عمليات المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، التي كان آخرها عملية "عيلي" التي أدت إلى مقتل عدد من المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة. هذا الأمر أثار حفيظة "إسرائيل" بشدة كما كلّ مرة، بانتقادها الدعم الإيراني الكبير لفصائل المقاومة الفلسطينية، حتى بات أكثر ما يقلقها هو نجاح إيران في تشكيل محور للمقاومة يقف نداً لمشروعها في المنطقة.
الثابت في العلاقة الإيرانية تجاه فلسطين وقضيتها ومقاومتها منذ أكثر من 4 عقود أن إيران تنظر إلى فلسطين كقضية مركزية في سياستها الخارجية، وأن مواقفها تجاوزت لغة الخطابة والشعارات. ومنذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران، جعلت القضية الفلسطينية قضية جوهرية وركيزة ثابتة من ركائزها تجاه فلسطين، ودعمت المقاومة كخيار استراتيجي وطريق أوحد للتحرير.
الدعم الإيراني لفصائل المقاومة الفلسطينية نابع من نظرة وعلاقة استراتيجية عميقة تجاه القضية الفلسطينية، وهو ما بدا واضحاً في حال التحول الكبير والواضح ودعم المقاومة الفلسطينية وإسنادها وتطوير بنيتها، حتى أصبحت بفعل هذا الدعم قوة قادرة على فرض معادلات الرعب والردع أمام "إسرائيل". في المقابل، أعطى ذلك إيران ثقلاً كبيراً في المنطقة.
توصيف العلاقة بشكل أدقّ بين فصائل المقاومة وإيران أنها ليست قضية أيديولوجية فحسب، سنة وشيعة، بل هي قضية عقائدية أولاً، ثم قضية دول وحكومات تصطفّ مع "إسرائيل"، وحكومات تقف ضدها ثانياً؛ ففي الوقت الذي تستقبل طهران قادة المقاومة للتباحث في التطورات التي تمر بها القضية الفلسطينية، تُغلق مطارات وعواصم عربية في وجه قادة المقاومة، بعدما ذهبت حكوماتها للتطبيع مع "إسرائيل".
دلالات الزيارة من حيث التوقيت ولقاء قادة المقاومة الفلسطينية قائد الثورة الاسلامية الامام السيد علي خامنئي يجعلانها تحمل أكثر من رسالة، وفي أكثر من اتجاه، وخصوصاً نحو "إسرائيل" التي تواصل عدوانها على الفلسطينيين ومقدساتهم، وعينها على ساحات الخارج، في وقت أصبح مفهوم وحدة الساحات هو الشعار الوحيد الذي يتردّد على لسان قادة المقاومة الفلسطينية ومحور المقاومة بأكمله.
تأتي زيارة قادة المقاومة إلى طهران لتعزيز مفهوم وحدة الساحات عملياً في مواجهة "إسرائيل"، وللتأكيد أنها لم تعد تستطيع الاستفراد بساحة دون الأخرى في ظل ظروف وبيئة إقليمية تصب رصيداً في مصلحة إيران أكثر من غيرها، باعتراف الكثير من الأطراف في المنطقة والأوساط الإسرائيلية الأخرى التي تحدثت في هذا الموضوع. ولعل من أبرز الرسائل التي يجب التوقف عندها في هذه الزيارة هو انهيار مفهوم التفكير الإسرائيلي في المنطقة كلها، الذي جاء في مؤتمر هرتسيليا الثالث عشر، والذي حدد خطوط التعامل مع المنطقة بعد ما يسمى بـ"الربيع العربي"، الذي نص بشكل واضح على أن "إسرائيل" لديها فرصة كبيرة لتشكيل "محور سني" في المنطقة لمواجهة إيران.
ولكن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، وانهار هذا التفكير بعد الإنجازات الكبيرة التي حققتها إيران في الفترة الأخيرة، والتي كان آخرها اتفاق عودة العلاقات مع السعودية التي تمثل محور السنة في المنطقة، ما شكَّل ضربة موجعة لـ"إسرائيل" وأميركا التي تفاجأت أيضاً بهذا الاتفاق وبانهيار الدعاية الإسرائيلية التي روجتها طيلة سنوات مضت بأنّ إيران عدو للمنطقة، لتأتي البيئة الإقليمية الجديدة وتخالف كل التوقعات والحسابات الإسرائيلية التي خطَّطت لها وأرادتها.
البيئة الإقليمية الجديدة التي سجّلت نجاحات دبلوماسية لإيران، والقائمة على قاعدة التوازن الاستراتيجي، سيجعلها تلتقط هذه الإشارات أكثر لتتقدم في علاقاتها مع أطراف ودول كانت "إسرائيل" تعدها صديقة محتملة لها، كما جرى مع السعودية. كل هذه المتغيرات تأتي في سياق إعادة التشكيل الحاصلة على قاعدة "تصفير المشكلات" وتقديم المصالح وكشف الخداع الأميركي الإسرائيلي الذي سوقته الإدارات الأميركية المتعاقبة.
إيران ركن متين يستند إليه محور المقاومة، وقدرتها على إحداث خلل في التوازن الإسرائيلي بعد فشل نتنياهو في التقدم في مشروع التطبيع أكثر سيزيد من حال القلق الإسرائيلي، ويسبب بداية خوف وقلق أميركي على "إسرائيل" أكثر في المنطقة، ويسجل نقطة استراتيجية لمصلحة إيران عند دخولها في أي مفاوضات دولية مقبلة.
تجسيد إيران مواقفها الثابتة ودعمها الكبير تجاه فلسطين ومقاومتها ليس وليدة اللحظة، وليس ورقة سياسية تلعب بها وتستخدمها كما يروج البعض عند كل زيارة أو لقاء مع مسؤول إيراني، بل هي شعار ثابت منذ انتصار الثورة الإسلامية التي رفعت شعارها "اليوم إيران، وغداً فلسطين"، وما زالت إيران ماضية على النهج والمسار نفسه حتى تحقيق كامل الأهداف بتحرير الأرض والمقدسات. إن قضية فلسطين ميدان تنافس كبير بين الدول في المنطقة، وكل من اقترب منها أكثر زاد ثقله وتأثيره ونفوده. وقد نجحت إيران في أن يكون لها النصيب الأكبر في القوة والتأثير والنفوذ، نتيجة تبنيها مواقف علنية واضحة وثابتة تجاه القضية الفلسطينية ودعم مقاومتها على مدار أكثر من 40 عاماً، وما زال هذا الدعم مستمراً. فالمنطقة أمام مرحلة جديدة ورؤية جادة، واستضافة الجمهورية الإسلامية الإيرانية قادة فصائل المقاومة الفلسطينية تصب في إطار الاستراتيجية الإيرانية القائمة على رسم مقاربات جديدة والاستعداد لمرحلة مقبلة ولأي مواجهة محتملة تتجرأ عليها "دولة" الاحتلال الإسرائيلي تجاه أي طرف من أطراف محور المقاومة في المنطقة.