مجتمع بمحورية الأسرة:
مواجهة خطر المنظمات الدولية إزاء تغيير شكل الأسرة
تتعرض الأُسرة المسلمة في ظل العولمة لهجمات شرسة من أجل تعميم النمط الغربي عليها تنفيذاً لخطة تطبيق هذا النمط على جوانب الحياة كافة، ويستخدم دعاة هذا الطرح، من أجل تنفيذ برامجهم وضمان نجاحهم في مهمتهم، وسائل عديدة وخارجية، فكرية واقتصادية، سياسية واجتماعية، تعمل كلها بقصد أو غير قصد على فرض الأجندة الخارجية، وتعمل على تغيير عادات الناس وتقاليدهم وقيّمهم حتى تتناسب مع هذه الأجندة.
ولقد كان من أهم أدوات هذا الطرح " منظمة الأمم المتحدة" التي عملت على إصدار الإتفاقيات ومواثيق دولية ألزمت الدول المنضمة إليها على توقيعها، ودعتهم للعمل على تنفيذ بنودها وتغيير قوانينهم الداخلية حتى تتناسب مع رؤية هذه المنظمة للمرأة. إذن التهديد الأكبر والأخطر، الذي يطال الأُسرة اليوم، يتمثّل بالدعوة إلى تغيير شكلها، وتعديل دورها، في إطار ما تنادي به الأمم المتّحدة عبر وثائقها واتّفاقياتها الدوليّة.
الأُسرة في تعريفات الأمم المتحدة
مرّت رؤية الأمم المتّحدة للأُسرة وأشكالها بمراحل عديدة؛ ففي المرحلة الأولى، جاء الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان في عام 1948م؛ ليُعرّف -في المادة السادسة عشر منه- الأسرة أنّها الوحدة الجماعيّة الطبيعيّة والأساسيّة للمجتمع، وأنّ الرجال والنساء البالغين، لهم الحقّ في الزواج، وفي تكوين أسرة، دون أيّ قيود بسبب العرق أو الجنسيّة أو الدين.
هذا التعريف، الذي يحتوي في طيّاته اعترافاً ضمنيّاً بالزواج بشكله الطبيعيّ المألوف بين إمرأة ورجل، تلاشى فيما بعد لتأتي غالبيّة الاتّفاقيّات والمواثيق الدوليّة المعنيّة بالمرأة، خاليةً من أيّة إشارة إلى مصطلح الأسرة؛ فهي تناولت المرأة كفرد مقتطع من سياقه الاجتماعيّ، وإذا ذكرته جاء ذكره هامشيّاً في سياق المطالبة بتحديد النسل، أو في سياق تقييد صلاحيّة الآباء في تربية الأبناء وتوجيههم، أو في سياق آخر هو في منتهى الخطورة؛ وهو ضرورة الاعتراف بوجود أشكال أخرى للأسرة، وهو ما يعني الاعتراف بالشذوذ وتقنينه، وإعطاء الشواذّ الحقوق نفسها التي يتمتّع بها الأسوياء، من ضمانات اجتماعيّة، والحقّ في الزواج والميراث والحصول على الخدمات الاجتماعية كافّة، وغيرها.
لقد كانت نتيجة هذه الرؤية للأسرة أن بدأت الأسرة تتفكك في كثير من المجتمعات لدرجة إنّ الأمم المتحدة في أحد تقاريرها الذي أصدرته بمناسبة اليوم العالمي للمرأة " إنّ الأسرة بمعناها الإنساني المتحضر، لم يعد لها وجود إلاّ في المجتمعات الإسلامية، رغم التخلف الذي تشهده في شتى المجالات الأخرى".
تعددية في أشكال الأسرة
تعمل المجتمعات الغربيّة على تغيير شكل الأُسرة؛ إذ بدأت تُظهر أشكالاً جديدة لها نتيجة التغييرات الاجتماعيّة، مثل تراجع نسبة الزواج، مقابل إباحة الزنى، أو بسبب انتشار الطلاق، وما إلى ذلك من عوامل فرضت وجود نمط جديد من الأثسر، وهو ما يُعرف بأُسرة الوالد الواحد، أو أسرة الأمّ العزباء، أو الأثسرة التي تنشأ نتيجة زواج بين شاذَّين، وغير ذلك من الأنواع التي بدأت المجتمعات والدول الغربيّة تتقبّلها، بل تطالب بحقوقها وبتعميمها على المجتمعات كافّة.
هذا، وتعدّ الأممُ المتّحدة المروّجَ الأوّل والداعم الأبرز لهذا النمط من الأُسر؛ إذ طالبت بتعزيز وجود الأُسر اللانمطيّة، ودافعت عن حقّها في الحصول على الحماية، وطالبت الحكومات بتشريع ما تسمّيه "كلّ أشكال الأُسرة"، وبتقديم الحماية لها.
فقد جاء في تقرير المؤتمر العالميّ الرابع المعنيّ بالمرأة أنّه "توجد أشكال مختلفة للأُسر في الأنظمة الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة المختلفة".
حتّى وثائق الطفل لم تسلم من هذه الرؤية؛ فتأتي وثيقة "عالم جدير بالأطفال" عام 2002م لتبرز المعنى ذاته –تعدديّة أشكال الأُسرة– حينما طالبت الوثيقة الحكومات بـ "مراعاة أنّ الأُسرة تتّخذ أشكالاً مختلفة باختلاف النظم الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة.
الهدف: تدمير الأُسرة... وفرض نموذج موحد لها
تناولت الأمم المتّحدة مفهوم الأُسرة من منظورٍ أنثويّ مفرط، يعتبر الزواج وسيلةً لتسلّط الرجل على المرأة، وأنّ الأطفال نقمة عليها، وأنّ المرأة حرّة في التصرّف بجسدها. فكان من البديهيّ أن يُطرح الشذوذ كحلّ لخلاص المرأة من "عبوديّة الرجل" المُدعاة، واعتبار الأُسرة المكوَّنة من امرأة ورجل يرتبطان برباط شرعيّ أسرةً تقليديّةً نمطيّةً، وضرورة استبدالها بأُسرة لا نمطيّة، متحرّرة من القيود والضوابط كافّة، حتّى الفطرية منها. وها هي شعبة المرأة في الأمم المتّحدة تتحاشى ذكر الأُسرة، وإنّما تعبّر عنها بـ"المجال الخاصّ"، وذلك حتّى لا تضطرّ إلى الاعتراف بالأُسرة ككيانٍ أساسيّ في حياة المرأة، وحتّى يتحقّق لهم هدف دمج المجالَين (العامّ والخاصّ) ليصبحا مجالاً واحداً، بحيث لا يكون للأُسرة خصوصيّة (المجال الخاصّ)، ومن ثمّ تتمكّن الأمم المتّحدة من الدخول إلى بيوت الناس، واقتحام العلاقة بين الزوجين، وبين سائر أفراد الأُسرة، لإفسادها وتدميرها!
المجتمع بمحورية الأُسرة...
لقد مثلت الدعوة المحمديّة مفصل اجتماعي في ضبط مسار التشكيلة الأُسرية بأحكام إلهية أصيلة بالنص الديني في مرحلة العصور الجاهلية بما ينسجم مع طبيعتها التكوينية الفطرية ودورها الاجتماعي في مسار الحضارة الإنسانية، فبناء الحضارة الإنسانية ليست من المسائل الفرعية، بل إنّ بناء إنسان الحضارة هو أحد أوجه الكمال الإنساني الذي باهى في خلقه الله (سبحانه وتعالى) جميع مخلوقاته في نموذج الأُسرة الآدمية، وفك عُرى بنية الأثسرة يهدد المشروع الإنساني الحضاري، الذي هو هدف وغاية الإسلام المحمدي الأصيل، من هنا جاء ربط الإمام الخامنئي (حفظه الله) استقرار المجتمع بسلامة البناء الأُسري، وقد جاء في وثيقة السياسات العامّة للأُسرة في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، "الوحدة البنويّة والحجر الأساس للمجتمع الإسلاميّ ومركز رشد الإنسان وتعاليه، وهي دعامة السلامة والاقتدار والتسامي المعنويّ للبلاد والنظام".
ونظرًا لكثرة التهديدات التي تتعرّض لها الأُسرة، كمؤسّسة في زماننا الحاضر، وضع سماحة الإمام القائد(حفظه الله) معالجة إشكاليّة تضعضع مؤسّسة الأُسرة في أولى أولويّات الجمهوريّة الإسلاميّة، وخصّص اللّقاء الإستراتيجيّ الثالث لمناقشة موضوع المرأة والأُسرة بالخصوص. وقد قدّم سماحته في هذا اللقاء أفكارًا بالغة في الأهميّة، تصلح لحلّ الإشكاليّة المعاصرة لمؤسّسة الأُسرة، في العالم الإسلاميّ بأكمله. وقد حمَّل سماحته، في هذا اللقاء، الرجال والنساء، ولا سيمّا الحقوقيّين والمثقّفين منهم، مسؤوليّة تقديم النموذج المشرق للحياة الأُسريّة في الإسلام بغية إنقاذ العالم من التسافل القيمي الذي يسير في اتجاهه".
وهكذا يُمثل العمل على تمكين الأسرة في رؤية منطلقة فكريًّا مع مجتمع بمحورية الأُسرية في مقابل الطروحات الجندريّة المتطرّف مدخلاً واقعياً جديداً نستطيع بواسطته إعادة تشكيل أُسرة متماسكة يتحمّس لها كل أفرادها، ويشعر كلّ واحدٍ منهما بأنّ جهوده وتضحياته مقدّرة ومحفوظة.