لبنان وإيران: العلاقة حول محور الدين
الوفاق/ خاص
عبير شمص
يبدو أن الأرض منذ أقدم الأيام كانت مسرحاً لجولات من التواصل والقطيعة بين الشعوب التي تسكنها، وبخاصّة تلك الشعوب التي تسكن قطعاً متجاورةً منها . ومن الشعوب التي جمعها عبر التاريخ جوار ومصالح مشتركة أحياناً، أو متضاربة أحياناً أخرى، من يُعرف اليوم بالعرب والإيرانيين. ستتناول هذه المقالة العلاقة الشعبية بين الشيعة اللبنانيين والشعب الإيراني، التي يجمعها الدافع الديني العام والمذهبي الخاص، أمّا الدافع الديني فمن الواضح أن الإسلام هو الجاممع المشترك الأهم بين الشعبين، وقد ترك هذا الأمر أثره ليس على العلاقة مع شيعة لبنان فحسب، بل على المسلمين في العالم الإسلامي بأسره.
رحلات علمية عاملية
إنطلق علماء جبل عامل، يحملون أفكارهم إلى مناطق بعيدة في العالم الإسلامي، وأتت هجراتهم، نتيجة عوامل متعددة، أبرزها الإضطهاد الذي عانوه، في عهد المماليك، ومن ثم ممارسات القمع، سيّما في عهد الجزار، أو أسباب تحصيل العلم غير المتوفر في أرضهم، وبالتالي زحفوا نحو العديد من الأقطار،طمعاً لكسب العلوم، فتأثّروا بالمكان الذي هاجروا إليه وأثّروا فيه، وبدأت تتوضح معالم نهضتهم الفكرية، حتى بلغوا رقياً بالغاً، إستمدوه من خلال دراستهم في أصول المعتقد، وكان لميزة فتح باب الإجتهاد لديهم، عكس بعض الفرق الدينية، أن إنتشرت افكارهم السياسية والثقافية، فكان منهم أول من إستنبط فكرة ولاية الفقيه من مصادر التشريع الديني، التي تستند إلى ولاية الحاكم الشرعي المجتهد، انسجاماً منهم مع التمسك بولاية الأئمة، والعودة إلى منهجهم في أحكام الحكم السياسي والديني، والإستمرارية له.
قامت علاقات متميّزة بين جبل عامل وعموم الأقطار الشيعية، حلّ فيها الطابع العلمي، بكل قوّة، لأن العامليين لم يكتفوا من علومهم المحلية، فتطلعوا إلى ما وراء حدودهم، بل توسّعوا إلى أبعد منها، علّهم ينهلوا من مناهل تلك العلوم وما طرأ عليها من تحديث، نظراً لوجود المرجعيات والمراكز العلمية الدينية فيها، أبرزها العراق وإيران، وما ضمّت من حواضر علمية تندرج ضمن نفس التوجه العقائدي لشيعة لبنان، مع ما تيسّر من حرية العمل الديني، مقابل انعدامها في أرجاء جبل عامل.
حلّ العامليون في مناطق الخصب الفكري، فالأماكن التي رحلوا إليها طلباً للعلم "كانت حواضر فكريّة ومراكز إشعاع منتشرة في العراق وإيران والهند وحيدر آباد ومصر" ، فأفادوا فيها واستفادوا منها، إضافة إلى نشوء علاقات في القربى من حيث الزواج والتزويج، فنشأت المصاهرة، وتوثقت العلاقات، حتى أخذت في منحى ما، صِلات رَحَمية وقرابة نَسَبيّة.
إبران ولبنان... علاقة تاريخية وثيقة
علاقة شيعة لبنان مع إيران تعود إلى بداية القرن السادس عشر، أي إلى عهد المملكة الصفويّة، وذلك عندما ساهم علماء الدين الشيعة في نشر العقيدة الشيعيّة التي تحولت مذهباً رسمياً للدولة الصفويّة في عهد الشاه إسماعيل عام 1501، حيث أدى التعاون ما بين رجال الدين اللبنانيين والحكم الصفوي، إلى تطوّر صلة وثيقة بين الدولة الشيعية، والطائفة الشيعية في جبل عامل في جنوب لبنان، والذي كان خاضعاً للحكم العثماني السنّي المعادي.
وقد سطعت شهرة جبل عامل في القرون الخمسة المتأخرة، بعد أن خرج منه علماء وأدباء ذاع صيتهم، خصوصاً في العراق، وبلاد فارس. فكان اهل هذع البلاد يحترمونهم احتراماً فائقاً، ولا يكاد يجد المرء كتاباً من كتب الشيعة إلا وذكر فيه عدة علماء من جبل عامل، حتى أصبح تاريخ الشيعة في لبنان جزء لا يتجزأ من تاريخ الشيعة في العالم، أثّروا فيه وتأثروا به، سلباً أو إيجاباً، خاصة مع وضع الشهيد الأول كتاب "اللمعة الدمشقية" الذي أصبح مادة دراسية أساسية في الحوزات العلمية الدينية التي تعد العلماء والفقهاء، ومع نشوء الدولة الصفوية(1500) حيث لعب علماء وفقهاء جبل عامل، دوراً كبيراً جداً في نشر التشيع في بلاد فارس.
نشر التشيع والتحصيل العلمي
هناك عدة أسباب لهجرة هؤلاء العلماء إلى إيران وأهمها: الدوافع الإقتصادية والدوافع الدينية والدوافع السياسية والأمنية، ولكن أبرزها الدافع الدينيّ من الرغبة في اغتنام الفرصة لنشر تعاليم المذهب الشيعيّ في بلد توفّرت فيه الظروف السياسيّة المساعدة على هذا العمل.
من جملة الأسباب الدافعة للهجرة إلى تلك البلاد، السعي إلى التحصيل العلمي المتوفّر في تلك البقاع، والهروب من القتل والتعذيب، لما تعرّض له شيعة لبنان، في فترات متلاحقة، من الحكم المملوكي والعثماني، الذي أعلن العداء للتشيّع الإثني عشري، نتيجة تجربته مع الصفويين في إيران، في حين انعكس ذلك، أثناء حكم الجزار على أهل جبل عامل، حينما شدد الوطأة عليهم، فحبس الكثير من علمائهم ووجهائهم في عكا، وقتل منهم العديد بعد التعذيب ونهب الأموال، وصادر العقارات والمزارع والأراضي، ونهب وأحرق كثيراً من كتب العلم، ما دفع بالآخرين، ممن لم تنلهم مخالب الجزار، إلى الهروب نحو العراق والهند وبلاد إيران، وقد هرب بعضهم إلى دمشق وبلاد بعلبك، واختفى من اختفى وتشرد أمراء البلاد خوفاً على أنفسهم، إضافةً لذلك، كان لقيام حملات الإعتقال الفرنسية التي استهدفت أبناء جبل عامل، الدافع الإضافي للفرار إلى خارج الحدود.
آثار الهجرة العاملية إلى إيران
لا تزال آثار الهجرة العاملية إلى إيران قائمة إلى اليوم، فما تزال بعض العائلات مقيمة فيها، مع استحصالها على جنسيّتها، إضافة الى العديد من المشاهد العمرانية، أهمّها ما بناه الشيخ البهائي العاملي من عجائب هندسيّة عديدة، منها مأذنتين في أصفهان تميّزتا بهندسة فائقة الإبداع، وإنارة شمعة صغيرة لا تنطفئ، باعثةً حرارة هائلة، تزوّد مدينة أصفهان بالمياه الساخنة، بالإضافة إلى أضرحة ومدافن لشخصيات عاملية، من بينها ضريح الشيخ البهائي في الحرم الرضوي المقدس، مع عدد كبير من مؤلفاتهم باللغتين العربية والفارسية.
في القرن التاسع عشر بدأت عائلات إيرانية بالاستقرار في المناطق الشيعيّة في جبشيت والنبطية، ثم أتت عائلات أخرى في مطلع القرن العشرين عملت في التجارة وزراعة التبغ. وثمة من يقول إنّ طقوس عاشوراء في النبطية بدأت في الفترة التي أقام فيها الإيرانيون هناك.
كما جذبت بيروت كمركز علميّ وثقافيّ طلبة إيرانييّن أتوا إليها في منتصف القرن الماضي للتعلّم في جامعاتها. هذا علماً بأنّ شيعة لبنان لم ينقطعوا عن زيارة المراكز والمقامات الدينية في إيران، ولا عن طلب العلم سواء في الجامعات أو في الحوزات الدينيّة، ولا عن تقليد بعض المرجعيّات الدينيّة مثل السيّد البروجردي، والسيّد الشاهرودي، والشيخ النائيني، والسيّد الكلبايكاني.