الصفحات
  • الصفحه الاولي
  • محلیات
  • اقتصاد
  • ثقافة ورياضة
  • سیاحة
  • دولیات
  • مقالات
  • منوعات
العدد سبعة آلاف وتسعمائة وأربعة وأربعون - ٢٠ ديسمبر ٢٠٢٥
صحیفة ایران الدولیة الوفاق - العدد سبعة آلاف وتسعمائة وأربعة وأربعون - ٢٠ ديسمبر ٢٠٢٥ - الصفحة ٦

ترامب يقرع طبول الاستعمار الجديد وفنزويلا في مواجهة الأساطيل

/ في ديسمبر/ كانون الثاني 2025، دخلت فنزويلا مرحلة تاريخية فارقة في علاقتها مع الولايات المتحدة، بعدما أعلن دونالد ترامب فرض حصار بحري شامل على ناقلات النفط الفنزويلية. لم يكن هذا القرار مجرد خطوة عقابية عابرة، بل مثّل تحوّلًا جذريًا في العقيدة الأميركية تجاه أميركا اللاتينية، حيث انتقلت واشنطن من أدوات الضغط الاقتصادي التقليدية إلى استخدام القوة العسكرية المباشرة، في مشهد يعيد إلى الأذهان حقبة الاستعمار الكلاسيكي حين كانت الأساطيل البحرية تُستخدم لفرض الهيمنة ونهب الموارد.
هذا الحصار لم يأتِ في فراغ، بل جاء امتدادًا لمسار طويل من التوتر بين كاراكاس وواشنطن، بدأ بالعقوبات المالية وتقييد التعاملات المصرفية، مرورًا بالحظر الجوي على بعض الرحلات والشحنات، وصولًا إلى محاولات عزل فنزويلا دبلوماسيًا في المحافل الدولية. ومع ذلك، فإن الانتقال إلى الحصار البحري الشامل يُعد تصعيدًا غير مسبوق، لأنه يضع الدولة الفنزويلية أمام مواجهة مباشرة مع القوة العسكرية الأميركية، ويحوّل الصراع من مستوى اقتصادي إلى مستوى استراتيجي يمسّ سيادة الدولة وحقها في التحكم بمواردها الطبيعية.
فنزويلا، التي تمتلك أكبر احتياطي نفطي مؤكد في العالم، وجدت نفسها فجأةً أمام محاولة لتصفير صادراتها النفطية، وهو ما يعني عمليًا ضرب شريان اقتصادها الوطني وتجفيف مصادر تمويل برامجها الاجتماعية والتنموية. هذا القرار يُهدد ليس فقط الاستقرار الاقتصادي، بل أيضًا الأمن الغذائي والدوائي لملايين المواطنين، ويضع البلاد أمام تحديات إنسانية جسيمة. إنّ الحصار البحري الأميركي على فنزويلا لا يُمكن النظر إليه كإجراء منفصل، بل هو جزء من استراتيجية أوسع لإعادة رسم موازين القوى في أميركا اللاتينية، وإعادة فرض الهيمنة الأميركية على منطقة لطالما اعتبرتها واشنطن «حديقتها الخلفية». بهذا المعنى، تتحول فنزويلا إلى ساحة اختبار لمستقبل النظام العالمي، إذ يتواجه مشروع الاستقلال والسيادة الوطنية مع مشروع الهيمنة والاستعمار الجديد.
من العقوبات الاقتصادية إلى العدوان العسكري المباشر
لسنوات طويلة، اعتمدت الولايات المتحدة سياسة العقوبات المالية وتقييد التعاملات المصرفية والحظر الجوي والضغط الدبلوماسي ضد فنزويلا، في محاولة لإضعاف الدولة الفنزويلية وإجبارها على تغيير مسارها السياسي والاقتصادي. لكن إعلان الحصار البحري في ديسمبر/ كانون الثاني 2025 مثّل انتقالًا نوعيًا من أدوات الحرب الاقتصادية إلى العدوان العسكري المباشر. فقد حشدت واشنطن أكبر قوة بحرية في تاريخ أميركا الجنوبية، لتطويق السواحل الفنزويلية ومنع ناقلات النفط من الإبحار، في خطوة تهدف إلى شلّ شريان الاقتصاد الوطني وتجفيف مصادر تمويل الدولة.
هذا التحول يعكس إدراك واشنطن أن العقوبات وحدها لم تُسقط الدولة الفنزويلية، وأنها بحاجة إلى أدوات أكثر قسوة لإحداث تغير فعلي. فالحصار البحري ليس مجرد إجراء عسكري، بل هو إعلان صريح بأن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام القوة الصلبة لإعادة فرض هيمنتها على المنطقة، بعد أن فشلت أدوات الضغط الاقتصادي والدبلوماسي في تحقيق أهدافها.
القرصنة البحرية كأداة استعمارية
الخطوة الأكثر خطورة في هذا التصعيد كانت عملية الاستيلاء على ناقلة النفط «سكيبر»، المُحملة بمليوني برميل من الخام، في المياه الدولية. هذه العملية لم تكن مجرد مصادرة، بل إعلان صريح عن استخدام الأساطيل البحرية كأداة للنهب المباشر. إنّ توظيف القوة البحرية بهذا الشكل يُعيد إلى الأذهان ممارسات القوى الاستعمارية في القرون الماضية، حين كانت السفن الحربية تُستخدم لفرض الهيمنة الاقتصادية والسيطرة على طرق التجارة العالمية. اليوم، يتكرر المشهد نفسه لكن بغطاءٍ جديد، إذ تُستخدم شعارات مثل «مكافحة الإرهاب» لتبرير الاستيلاء على موارد دولة ذات سيادة.
خطاب ترامب.. عودة الاستعمار بلغة صريحة
أعلن دونالد ترامب عن فرض حصار شامل على ناقلات النفط المرتبطة بفنزويلا، مبررًا هذه الخطوة بحماية «الأصول الأميركية» التي يرى أنها سُرقت عبر قرارات التأميم التي اتخذتها كاراكاس منذ سبعينيات القرن الماضي، وتكرست في عهد هوغو تشافيز. هذا التحول في الخطاب يعكس تغييرًا في التكتيك؛ فبعد أن كانت واشنطن تُبرر تدخلاتها السابقة بمكافحة تهريب المخدرات، باتت اليوم تُركز على الدفاع عن مصالحها الاقتصادية المباشرة.
الرسالة الأساسية من البيت الأبيض هي أن هذه الإجراءات ليست عبثية، بل تأتي لحماية الممتلكات الأميركية، ما يمنحها وزنًا أكبر في نظر الداخل الأميركي، ويحوّل الصراع إلى قضية قومية مرتبطة بالثروات الطبيعية.
بهذا المعنى، يغدو الحصار البحري جزءًا من خطاب استعماري جديد، يعتبر موارد الدول الأخرى مُلكًا للقوى العظمى وأداة لترسيخ هيمنتها.
الفلسفة السياسية للاستعمار الجديد
الحصار البحري على فنزويلا يمثل نموذجًا واضحًا للاستعمار الجديد، إذ تُستخدم أدوات اقتصادية وعسكرية لإخضاع الدول بدلًا من الاحتلال المباشر. إن ما يجري اليوم يعيد إلى الأذهان ممارسات القرن التاسع عشر حين كانت القوى الأوروبية تفرض سيطرتها عبر الأساطيل البحرية، لكن الفرق أن واشنطن تبرر أفعالها بخطاب «مكافحة الإرهاب» و«حماية الديمقراطية».
هذا التبرير ليس سوى غطاء أيديولوجي لنهب الموارد الطبيعية وإعادة فرض الهيمنة على دول الجنوب. في جوهره، يعكس عقلية الحرب الباردة، لكنه يعيد إنتاج منطق الاستعمار القديم بأدوات جديدة، حيث تُستخدم العقوبات والحصار والتصنيفات القانونية كسلاح سياسي لإخضاع الدول.
موقف الحكومة الفنزويلية.. صمود الثورة البوليفارية
الرئيس نيكولاس مادورو ردّ بخطاب حازم، مؤكدًا أن فنزويلا لن تُستعمر أبدًا، وأنها ستواصل تجارتها مع العالم رغم الحصار. الحكومة وصفت الإجراءات الأميركية بأنها «قرصنة دولية» وانتهاك صارخ للقانون الدولي، وأعلنت التعبئة العامة للدفاع عن الأراضي والمياه الفنزويلية. كذلك أن تصنيف الحكومة الفنزويلية «منظمة إرهابية أجنبية» يُعد سابقة خطيرة في العلاقات الدولية، لأنه يفتح الباب أمام استخدام هذا التصنيف ضد أي حكومة لا ترضى عنها واشنطن، ويُهدد النظام الدولي القائم على السيادة. كما أن الحصار البحري لا يستهدف فقط النفط، بل يُهدد حياة ملايين الفنزويليين عبر منع الغذاء والدواء من الوصول إلى البلاد، في استعادة لسيناريوهات العقاب الجماعي التي شهدتها دول أخرى.
روسيا والصين في مواجهة واشنطن.. وأوروبا منقسمة 
روسيا وصفت الحصار بأنه «قرصنة دولية»، وأعلنت استعدادها لتعزيز التعاون العسكري مع كاراكاس، مؤكدة أن ما يجري يعكس عودة واشنطن إلى زمن الاستعمار.
الصين اعتبرت أن الحصار يهدد مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، وأكدت أنها ستواصل شراء النفط الفنزويلي رغم التهديدات الأميركية، معتبرةص أن الخطوة الأميركية محاولة لقطع الطريق أمام الشراكات الصينية.
أمّا الاتحاد الأوروبي فقد انقسم بين دول تدعم واشنطن وأخرى تدعو إلى الحوار، ما يعكس هشاشة الموقف الأوروبي في مواجهة السياسات الأميركية، ويكشف أن الأزمة الفنزويلية أصبحت اختبارًا لوحدة الموقف الدولي.
النفط كسلاح جيوسياسي
الهدف الحقيقي للحصار ليس منع النفط الفنزويلي من الوصول إلى الأسواق، بل ضمان أن تكون الشركات الأميركية المستفيد الحصري منه. الاستثناء الممنوح لشركة «شيفرون» الأميركية لمواصلة عملياتها في فنزويلا يكشف النوايا الحقيقية، ويؤكد أن القضية ليست مكافحة الإرهاب أو المخدرات، بل السيطرة على الثروات الطبيعية. بهذا المعنى، يتحول النفط إلى سلاح جيوسياسي يُستخدم لإعادة رسم خريطة النفوذ في أميركا اللاتينية، ويُصبح الحصار البحري أداة لإعادة توزيع الأرباح في قطاع الطاقة العالمي.
الهجرة الإقليمية.. تداعيات إنسانية ممتدة
من أبرز نتائج الحصار المتوقع هو موجات هجرة جديدة من فنزويلا نحو الدول المجاورة. كولومبيا والبرازيل ستواجهان ضغطًا هائلًا نتيجة تدفق اللاجئين، فيما ستجد أوروبا نفسها أمام تحديات جديدة إذا امتدت الأزمة لتؤثر على حركة الهجرة العالمية. هذا البُعد الإنساني يضيف طبقة أخرى من التعقيد، إذ لا يقتصر الحصار على الداخل الفنزويلي، بل يمتد أثره إلى دول الجوار والعالم، ويحوّل الأزمة إلى قضية إقليمية ودولية تتجاوز حدود فنزويلا.
ختاماً يُمثل الحصار البحري الأميركي على فنزويلا لحظة فارقة في تاريخ العلاقات الدولية، إذ يُعيد إلى الواجهة لغة الاستعمار والنهب المباشر للثروات. في المقابل، تصرّ فنزويلا على الصمود والدفاع عن سيادتها، مدعومة بتاريخ طويل من المقاومة الشعبية. إنها مواجهة بين مشروعين: مشروع الهيمنة والاستعمار الجديد، ومشروع الاستقلال والسيادة الوطنية. والنتيجة ستحدد ليس فقط مستقبل فنزويلا، بل مستقبل أميركا اللاتينية بأسرها، وربما شكل النظام العالمي في العقود المقبلة.  
البحث
الأرشيف التاريخي