تم الحفظ في الذاكرة المؤقتة...
حملة تهدد العدالة وتكشف هشاشة النظام العالمي
المحكمة الجنائية الدولية في قلب مواجهة سياسية غير مسبوقة مع إدارة ترامب
المحكمة الجنائية الدولية والنظام الدولي
المحكمة الجنائية الدولية وُلدت من إرث محاكم نورمبرغ وطوكيو التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، لكنها جاءت لتكون مؤسسة دائمة ومستقلة، وليست محكمة المنتصرين. اختصاصها يشمل الجرائم الكبرى مثل الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وهي تعمل وفق مبدأ «الملاذ الأخير»، أي أنها تتدخل عندما تعجز الأنظمة القضائية الوطنية أو ترفض محاكمة المتهمين. غير أن غياب انضمام الولايات المتحدة، باعتبارها القوة العظمى الأكثر تأثيراً في النظام الدولي، أضعف شرعية المحكمة في نظر كثيرين، إذ إن واشنطن منذ البداية رفضت الانضمام إلى نظام روما الأساسي بحجة أن المحكمة قد تُستخدم ضد جنودها وضباطها المنتشرين في مناطق النزاع حول العالم. هذا الموقف الأميركي لم يكن مجرد تحفظ قانوني، بل كان تعبيراً عن رؤية سياسية ترى أن أي مؤسسة قضائية دولية مستقلة قد تحد من حرية الولايات المتحدة في استخدام قوتها العسكرية والسياسية دون مساءلة. ومع ذلك، لم يمنع هذا الغياب المحكمة من ممارسة صلاحياتها وإصدار مذكرات اعتقال بحق شخصيات بارزة في دول أخرى، ما جعلها في موقع حساس بين طموحها العالمي في تحقيق العدالة وبين واقع سياسي تفرضه قوة عظمى مثل الولايات المتحدة التي تعتبر استقلالية المحكمة تهديداً مباشراً لمصالحها الاستراتيجية. هذا التناقض بين الرسالة العالمية للمحكمة وبين رفض واشنطن الاعتراف بها جعلها منذ البداية في موقع هش، حيث تعتمد على دعم الدول الأعضاء لكنها تواجه مقاومة من القوة الأكبر في العالم، وهي مقاومة تُترجم في شكل ضغوط سياسية واقتصادية ومحاولات متكررة لإضعافها أو التشكيك في شرعيتها.
ترامب يشن حملة واسعة ضد المحكمة
مع وصول ترامب إلى السلطة، دخلت العلاقة بين واشنطن والمحكمة مرحلة غير مسبوقة من التصعيد. ترامب لم يكتفِ بالموقف التقليدي الرافض، بل شن حملة واسعة ضد المحكمة، استهدفت قضاة ومدعين عامين ومنظمات حقوقية، وفرض عقوبات اقتصادية وسياسية، في محاولة واضحة لإضعافها أو حتى نسفها بالكامل. هذا التصعيد ارتبط بشكل مباشر بالتحقيقات التي فتحتها المحكمة بشأن جرائم حرب العدو الصهيوني في غزة بعد معركة «طوفان الأقصى» حيث نفذ كيان العدو الصهيوني حملة عسكرية شرسة أسفرت عن سقوط عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين.
بالنسبة لترامب، أي تحقيق في جرائم كيان العدو يشكل تهديداً مباشراً لمصالح الولايات المتحدة وحليفتها الاستراتيجية، ولذلك اعتبر أن تعطيل المحكمة ضرورة سياسية وأمنية. العقوبات الأميركية شملت تجميد الأصول وحظر التعامل مع الشركات الأميركية، ما دفع العديد من المؤسسات الخاصة إلى قطع علاقاتها مع المحكمة خوفاً من العقوبات، فيما أدى الترهيب السياسي إلى خلق مناخ من الخوف بين الموظفين والمتعاونين معها، ما دفع بعضهم إلى التوقف عن العمل في تحقيقات جرائم الحرب.
وهكذا منذ نحو عام، شنّ ترامب ضغوطاً قوية على المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. إلا أن هذه الضغوط لم تحقق النتيجة التي أرادها. فوفق المقال الذي نشره موقع HuffPost، اجتمعت الدول الأعضاء في المحكمة وأكدت رفضها الرضوخ له، وأظهرت تضامناً غير مسبوق منذ خمسة عشر عاماً، معتبرة أن استقلال المحكمة ضرورة لملاحقة الجرائم الكبرى.
المقال أشار أيضاً إلى أن استهداف المحكمة بسبب تحقيقها في غزة يُعد دليلاً على أهمية وجودها، وأن انهيارها سيكون بمثابة انتصار لرؤية ترامب التي تجعل القوة هي القانون. وباختصار، حملة الضغط لم تؤدِّ إلى إضعاف المحكمة كما أراد، بل أسفرت عن تضامن دولي واسع لحمايتها، مع إبراز التناقض الأميركي بين ترحيبها بمذكرات اعتقال ضد خصومها ورفضها لأي مساءلة تطال حلفائها.
ردود الفعل الدولية
وهكذا رغم الضغوط الأميركية، أظهرت الدول الأعضاء في المحكمة تضامناً غير مسبوق. في الاجتماع السنوي للمحكمة في لاهاي، أكدت رئيسة المحكمة القاضية اليابانية توموكو أكانه أن المحكمة لا تقبل أي نوع من الضغوط، فيما شددت منظمات حقوقية على ضرورة حماية استقلاليتها. هذا التضامن كشف ازدواجية المعايير الأميركية، إذ رحبت واشنطن بمذكرة اعتقال بوتين الصادرة عن المحكمة، لكنها رفضت أي تحقيق يتعلق بكيان العدو .
هذه الازدواجية أضعفت الموقف الأميركي وأعطت زخماً للمدافعين عن المحكمة، الذين يرون أن العدالة لا يمكن أن تكون انتقائية. الاتحاد الأوروبي ودول أخرى أبدت دعماً قوياً للمحكمة، معتبرة أن وجود مؤسسة مستقلة لمقاضاة الأفراد عن الجرائم الكبرى يشكل ضمانة للاستقرار العالمي. ومع ذلك، تبقى المحكمة تحت حصار فعلي، حيث العقوبات الأميركية أضعفت قدرتها على العمل بحرية، والخوف بين الموظفين والمتعاونين معها أدى إلى توقف بعض التحقيقات، فيما الضغوط السياسية تهدد استقلاليتها على المدى الطويل.
غزة كمختبر للعدالة الدولية
غزة أصبحت مختبراً حقيقياً لاختبار قدرة المحكمة الجنائية الدولية على مواجهة الضغوط. إذا تمكنت المحكمة من المضي في تحقيقاتها، فإن ذلك سيشكل سابقة تاريخية، ويعزز الأمل في إمكانية محاسبة المسؤولين عن الجرائم ضد المدنيين في المنطقة. أي خطوة قضائية ضد مسؤولين صهاينة ستؤثر على مسار الصراع، إذ ستمنح الفلسطينيين أداة قانونية جديدة، وتضع العدو الصهيوني أمام تحديات غير مسبوقة في علاقاته الدولية. في المقابل، قد تدفع الأخير وحلفاءه إلى مزيد من التصعيد ضد المحكمة.
مقارنة تاريخية مع محاكم نورمبرغ
من الناحية التاريخية، يمكن مقارنة المحكمة الجنائية الدولية بمحاكم نورمبرغ التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. تلك المحاكم كانت أول تجربة دولية لمحاكمة أفراد على جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لكنها كانت محاكم المنتصرين، ولم تشمل جرائم ارتكبها الحلفاء. المحكمة الجنائية الدولية جاءت لتكون مؤسسة مستقلة تطبق القانون على الجميع، لكنها تواجه تحديات أكبر لأنها تعمل في عالم متعدد الأقطاب، حيث القوى الكبرى ليست بالضرورة داعمة لها. هذا الاختلاف يجعل المحكمة أكثر عرضة للضغوط السياسية، لكنه أيضاً يمنحها شرعية أكبر إذا نجحت في الصمود، لأنها ليست أداة بيد المنتصرين بل مؤسسة عالمية تسعى إلى تحقيق العدالة للجميع.
القانون الدولي الإنساني تحت التهديد
القانون الدولي الإنساني، المعروف أيضاً بقوانين الحرب، يحدد كيفية معاملة المدنيين والأسرى، ويضع قيوداً على استخدام القوة. المحكمة الجنائية الدولية هي الأداة القضائية الأساسية لتطبيق هذه القوانين على الأفراد. لكن حملة ترامب تهدد بتقويض هذا القانون، إذ تجعل تطبيقه انتقائياً. إذا نجحت واشنطن في تعطيل المحكمة، فإن ذلك يعني أن الجرائم قد تُرتكب بلا خوف من العقاب، ما يضعف فعالية القانون الدولي الإنساني. في غزة، يشكل التحقيق في جرائم الحرب اختباراً مباشراً لهذا القانون. إذا فشلت المحكمة في المضي قدماً، فإن ذلك سيضعف قدرة القانون على حماية المدنيين في النزاعات المستقبلية، ويجعل من الإفلات من العقاب قاعدة لا استثناء.
السيناريوهات المستقبلية
المستقبل يحمل عدة سيناريوهات: قد تنهار المحكمة تحت الضغوط الأميركية، أو قد تدفع الأزمة الدول الأعضاء إلى إصلاحها وتعزيز استقلاليتها، أو قد تتشكل كتلة دولية داعمة توفر لها دعماً مالياً وسياسياً، أو قد تستمر في العمل تحت ضغط دائم، ما يجعلها عاجزة عن فرض قراراتها بشكل فعلي. كل سيناريو يحمل تداعيات عميقة على العدالة الدولية، وعلى قدرة القانون الدولي الإنساني على حماية المدنيين في النزاعات. في حال الانهيار، العدالة الدولية ستفقد أهم أدواتها، أما في حال الإصلاح أو التعزيز، فستصبح أكثر استقلالية، ما يعزز الثقة في القانون الدولي. العلاقات الدولية أيضاً ستتأثر، ففي حال الانهيار ستفرض القوى الكبرى رؤيتها، أما في حال التعزيز فقد يتشكل نظام عالمي جديد أكثر توازناً، حيث القانون يحد من القوة.
الجنائية الدولية في قلب معركة وجودية
المحكمة الجنائية الدولية اليوم ليست مجرد مؤسسة قضائية، بل هي ساحة معركة تحدد مستقبل النظام العالمي. حملة ترامب ضدها تكشف هشاشة العدالة الدولية، لكنها أيضاً تبرز الحاجة الملحة إلى وجود مؤسسة مستقلة لمحاسبة الأفراد على الجرائم الكبرى. من نورمبرغ إلى غزة، يبقى السؤال الأساسي: هل سينتصر القانون على القوة، أم أن القوة ستظل هي القانون؟ المستقبل لم يُحسم بعد، لكن المؤكد أن المحكمة الجنائية الدولية تقف اليوم في قلب معركة وجودية ستحدد شكل العدالة الدولية لعقود قادمة.
