مستهدفةً عملاقي النفط «روسنفت» و«لوك أويل»
واشنطن تصعّد المواجهة مع موسكو بعقوبات غير مسبوقة
/ في خطوة تُعدّ من أخطر التحولات في مسار الصراع الجيوسياسي، أطلقت الولايات المتحدة رصاصة العقوبات المباشرة على قلب الاقتصاد الروسي، مستهدفة عملاقي النفط «روسنفت» و«لوك أويل». هذه العقوبات لا تقتصر على الأثر الاقتصادي، بل تعيد رسم خريطة التحالفات الدولية، وتضع دولًا مثل الهند والصين أمام اختبار جديد في علاقاتها مع الكرملين. فهل ستُحدث هذه الإجراءات تحولاً في ميزان القوى؟ أم أن العالم على أعتاب فصل جديد من الحرب الاقتصادية العالمية؟
التحول في الاستراتيجية الأميركية
منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، اتسمت السياسة الأميركية تجاه روسيا بالتذبذب بين التهديد والتنفيذ. دونالد ترامب، الذي لطالما فضّل الحوار مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، كان يتراجع مرارًا عن تنفيذ تهديداته بفرض عقوبات قاسية، مفضّلًا إبقاء قنوات التواصل مفتوحة. لكن إعلان وزارة الخزانة الأميركية إدراج «روسنفت» و«لوك أويل» على القائمة السوداء، شكّل نقطة انعطاف حاسمة في مسار المواجهة، وأطلق أول حزمة رئيسة من العقوبات المالية التي تستهدف قلب الاقتصاد الروسي.
القرار جاء بذريعة «عدم التزام روسيا الجادّ بعملية السلام»، وهو ما يعكس خيبة أمل واشنطن من فشل المحادثات مع بوتين، رغم اللقاءات المتكررة التي وصفها ترامب بأنها «جيدة ولكن غير مثمرة». وفي اجتماع مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، أعلن ترامب أن الوقت قد حان لاتخاذ خطوة حاسمة، مؤكدًا أنه لا يريد عقد «اجتماع ضائع» مع بوتين، رغم أنه لا يزال يأمل في التوصل إلى تسوية تنهي الحرب.
ضربة في عمق الاقتصاد الروسي
اختيار «روسنفت» و«لوك أويل» لم يكن اعتباطيًا. فهاتان الشركتان تُمثلان نحو نصف صادرات روسيا من النفط الخام، وتُعدان من أعمدة الاقتصاد الروسي. «روسنفت»، التي يرأسها إيجور سيتشين، الحليف المقرب من بوتين، تنتج أكثر من 3.7 مليون برميل يوميًا، وتُعد من أكبر شركات الطاقة في العالم. أما «لوك أويل»، فهي شركة خاصة لكنها ترتبط بعلاقات وثيقة مع الدولة، وتلعب دورًا محوريًا في تصدير النفط إلى الأسواق الآسيوية، خصوصًا الهند والصين.
استهداف هاتين الشركتين يعني تعطيل شبكة التمويل التي تعتمد عليها موسكو في دعم عملياتها العسكرية، وإرباك سلاسل التوريد النفطية، والضغط على الدول المستوردة لإعادة النظر في علاقاتها التجارية مع روسيا. كما أن تهديد واشنطن للبنوك التي تتعامل مع الشركتين يضيف طبقة جديدة من التعقيد، ويجعل من الصعب على المصافي الأجنبية الاستمرار في شراء النفط الروسي دون مواجهة تبعات مالية وقانونية.
الأثر الفوري على الأسواق العالمية
ردّ فعل الأسواق كان سريعًا. ارتفعت أسعار النفط بنسبة 3% فور إعلان العقوبات، ليصل خام برنت إلى أكثر من 64 دولارًا للبرميل. هذا الارتفاع يعكس مخاوف من نقص الإمدادات، خصوصًا أن روسيا تمثل نحو 11% من الإنتاج العالمي، وتُعد من أكبر ثلاثة منتجين إلى جانب الولايات المتحدة والسعودية. لكن التأثير لا يقتصر على الأسعار، بل يمتد إلى سلاسل التوريد، وشبكات التمويل، وحتى العلاقات التجارية بين الدول المستوردة للنفط الروسي والولايات المتحدة.
في هذا السياق، بدأت شركات التكرير في الهند، مثل «ريلاينس إندستريز»، في إعادة النظر في عقودها مع «روسنفت»، رغم أن هذه العقود كانت طويلة الأجل ومحددة المدة. الضغوط الأميركية، التي تشمل تهديدًا للبنوك التي تموّل هذه الصفقات، دفعت المصافي الهندية إلى تقليص وارداتها، في خطوة تهدف إلى إزالة عقبة رئيسة من أمام التوصل إلى اتفاق تجاري مع واشنطن.
أوروبا.. عقوبات منسقة أم مصالح متباينة؟
بالتوازي مع الخطوة الأميركية، أعلن الاتحاد الأوروبي الحزمة الـ19 من العقوبات على روسيا، والتي شملت حظرًا على واردات الغاز الطبيعي المسال، وتقييدًا لحركة الدبلوماسيين الروس داخل أراضي الاتحاد. لكن رغم التنسيق الظاهري، تبقى المصالح الأوروبية أكثر تعقيدًا. فدول مثل ألمانيا وفرنسا تعتمد جزئيًا على الطاقة الروسية، وتواجه ضغوطًا داخلية من الصناعات الثقيلة التي تخشى من ارتفاع التكاليف.
ومع ذلك، فإن الحزمة الأوروبية تُعد من أشد الإجراءات تأثيرًا على قطاع الطاقة الروسي منذ اندلاع الحرب، وتشمل حظر منصات تداول الأصول المشفّرة المرتبطة بروسيا، واستهداف كيانات في الهند والصين تتعامل مع موسكو. هذا التنسيق يعكس رغبة الغرب في توسيع دائرة الضغط، لكنه يواجه تحديات في التنفيذ، خصوصًا في ظل تباين المصالح بين الدول الأوروبية.
روسيا.. إنكار التأثير وتأكيد الحصانة
موسكو، كعادتها، ردّت بنبرة تحدٍّ، مؤكدة أن العقوبات «لن تتسبب بأي مشاكل خاصة»، وأن روسيا «تتمتع بحصانة قوية ضدّ العقوبات الغربية». هذا الخطاب يعكس استراتيجية الكرملين في التقليل من شأن الإجراءات الغربية، مع التأكيد على القدرة الذاتية في تجاوز الأزمات.
الصين أمام اختبار جديد
رغم أن الصين لم تكن هدفًا مباشرًا للعقوبات، إلا أن استهداف شركات النفط الروسية يضعها أمام اختبار جديد. بكين تعتمد على النفط الروسي لسد فجوة الاستهلاك، وتُعد من أكبر المستوردين. ومع تهديد واشنطن للبنوك التي تتعامل مع «روسنفت» و«لوك أويل»، قد تجد الصين نفسها مضطرة لإعادة النظر في علاقاتها التجارية مع موسكو، أو تطوير آليات جديدة للتحايل على العقوبات. في الوقت نفسه، فإن الصين تراقب عن كثب مدى قدرة روسيا على الصمود، لأن ذلك يحدد مستقبل التحالفات في آسيا، ويؤثر على توازنات الطاقة في المنطقة. وإذا قررت بكين دعم موسكو بشكلٍ مباشر، فقد تدخل في مواجهة غير مباشرة مع واشنطن، ما يفتح الباب أمام تصعيد جديد في الحرب الاقتصادية العالمية.
فعالية العقوبات بين الضغط والتأقلم
السؤال المركزي؛ هل تنجح العقوبات في تغيير سلوك الكرملين؟ العقوبات، كما يقول توماس غراهام من مجلس العلاقات الخارجية، «تعمل ببطء»، والكرملين يعرف «جيّد جدًّا في التحايل عليها». لكن استهداف شركات النفط مباشرة، بدلًا من الأطراف الثالثة، يُعد تطورًا نوعيًا في أدوات الضغط. ومع ذلك، فإن الرهان على تغيير سلوك بوتين عبر العقوبات وحدها قد يكون مبالغًا فيه. فالرئيس الروسي أثبت مرارًا أنه مستعد لتحمّل الكلفة الاقتصادية مقابل تحقيق أهدافه الاستراتيجية، خصوصًا في أوكرانيا. كما أن العقوبات قد تدفع روسيا إلى تعزيز علاقاتها مع دول مواجهة لأمريكا، وتطوير شبكات بديلة للتمويل والتصدير.
النفط من سلعة إلى أداة صراع
ما يحدث اليوم يُعيد تعريف دور النفط في العلاقات الدولية. فهو لم يعد مجرد سلعة تُباع وتُشترى، بل أصبح أداة للردع، والضغط، وإعادة تشكيل التحالفات. العقوبات على عملاقي النفط الروسي تُظهر كيف يمكن للولايات المتحدة أن تستخدم الطاقة كسلاح غير تقليدي، في مواجهة خصومها. هذا التحوّل في أدوات الصراع يعكس إدراكًا متزايدًا بأن السيطرة على تدفقات الطاقة تعني السيطرة على مسارات القرار السياسي والاقتصادي في الدول المستوردة.
لكن هذا السلاح له تبعات. فارتفاع الأسعار، واضطراب الأسواق، وتوتر العلاقات مع دول مثل الهند والصين، كلها نتائج غير مباشرة قد تُضعف فعالية العقوبات، أو تُحوّلها إلى عبء على واشنطن نفسها. كما أن استخدام الطاقة كسلاح قد يدفع الدول المستهدفة إلى تطوير بدائل استراتيجية، مثل تعزيز الإنتاج المحلي، أو تنويع مصادر الاستيراد، أو حتى بناء تحالفات مضادة.
العقوبات بين الفعالية والمخاطرة
العقوبات الأميركية على عملاقي النفط الروسي تمثل قفزة كبرى في مسار المواجهة مع موسكو، لكنها ليست نهاية الطريق. فترامب نفسه أشار إلى رغبته في التوصل إلى تسوية، وأعرب عن أمله في ألا تستمر العقوبات طويلًا. المرحلة المقبلة ستشهد اختبارًا حقيقيًا لفعالية هذه الإجراءات، ليس فقط في إضعاف الاقتصاد الروسي، بل في تغيير سلوك الكرملين.
