تم الحفظ في الذاكرة المؤقتة...
قراءة في صراع الجغرافيا السياسية
تايوان.. بين السيادة الصينية والتدخل الأميركي
في سبتمبر/ أيلول 2025، أصدرت الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية بياناً مشتركاً تناول قضية تايوان وبحر الصين الجنوبي، ما أثار غضب بكين التي اعتبرت ذلك تدخلاً سافراً في شؤونها الداخلية. هذا الحدث لم يكن مجرد خلاف دبلوماسي عابر، بل محطة جديدة في مسار طويل من الاستفزازات الغربية التي تستهدف تقويض وحدة الصين، وعرقلة جهودها التنموية.
جذور النزاع.. تايوان بين التاريخ والسيادة
تعود جذور قضية تايوان إلى عام 1949م، حين انتصرت القوات الشيوعية بقيادة «ماو تسي تونغ» في الحرب الأهلية الصينية، وفرّ القوميون بقيادة «تشيانغ كاي شيك» إلى جزيرة تايوان، معلنين قيام «جمهورية الصين». ومنذ ذلك الحين، ظلت بكين تعتبر الجزيرة إقليماً متمرداً يجب استعادته، بينما تطورت تايوان إلى كيان سياسي منفصل يسعى للاعتراف الدولي.
لكن هذا الانفصال لم يكن نتيجة إرادة شعبية مستقلة، بل نتاج تدخلات خارجية، أبرزها الدعم الأميركي المستمر، الذي حوّل الجزيرة إلى قاعدة متقدمة في وجه الصين، ووسيلة لزعزعة استقرارها الداخلي والإقليمي. منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية، تمسكت بكين بمبدأ «صين واحدة»، الذي ينص على أن تايوان جزء لا يتجزأ من الأراضي الصينية. هذا المبدأ يحظى باعتراف دولي واسع، بما في ذلك من قبل الأمم المتحدة، التي لا تعترف بتايوان كدولة مستقلة. ومع ذلك، تستمر الولايات المتحدة في انتهاك هذا الإجماع، عبر علاقات غير رسمية مع تايبيه، وصفقات تسليح، وزيارات رسمية، كلها تهدف إلى استفزاز الصين وإضعاف موقفها السيادي.
تدخل سافر أم تحالف استراتيجي؟
في بيان مشترك صدر عن وزراء خارجية الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية، أعربت الدول الثلاث عن «قلقها إزاء الأنشطة المزعزعة للاستقرار حول تايوان»، ورفضها «المطالبات غير القانونية بالحقوق البحرية» في بحر الصين الجنوبي. هذا البيان جاء في سياق قمة ثلاثية تهدف إلى تعزيز التحالفات الأمنية في آسيا، في مواجهة ما يُسمى بـ«التهديد الصيني».
الرد الصيني.. سيادة لا تقبل المساومة
ردت بكين بغضب، معتبرةً أن البيان يمثل تدخلاً غير مقبول في شؤونها الداخلية، ويشوه سمعتها الدولية. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية إن «تايوان جزء لا يتجزأ من أراضي الصين، وقضيتها شأن داخلي بحت لا يقبل أي تدخل خارجي». كما اتهم القوى الخارجية بدعم الأنشطة الانفصالية التي تهدد السلام في مضيق تايوان، مؤكداً أن الاستقرار يتحقق فقط عبر الالتزام بمبدأ «صين واحدة».
بحر الصين الجنوبي.. ساحة للتدخل الأميركي
إلى جانب قضية تايوان، يُشكل بحر الصين الجنوبي نقطة توتر إضافية.
الصين تطالب بحقوق واسعة في هذه المنطقة الاستراتيجية، وتبني جزر صناعية وتُجري تدريبات عسكرية، بينما ترفض الولايات المتحدة وحلفاؤها هذه المطالب، معتبرينها «غير قانونية»، رغم أن الصين تستند إلى خرائط تاريخية واتفاقيات إقليمية تؤكد حقوقها السيادية.
الولايات المتحدة لا تكتفي بالتصريحات، بل ترسل حاملات طائرات، وتسيّر دوريات بحرية قرب الجزر الصينية، وتدعم دولاً مثل الفلبين وفيتنام في مواجهتها مع بكين.
هذا الاستعراض العسكري لا يهدف إلى حماية القانون الدولي، بل إلى فرض الهيمنة الأميركية، وإبقاء الصين تحت الضغط، ومنعها من بسط نفوذها الطبيعي في محيطها الإقليمي.
لماذا تصر واشنطن على استفزاز بكين؟
الهدف الأساسي من التدخل الأميركي في قضية تايوان وبحر الصين الجنوبي هو احتواء الصين، ومنعها من التحول إلى قوة عالمية منافسة. فواشنطن تدرك أن بكين، بقوتها الاقتصادية والعسكرية، قادرة على إعادة تشكيل النظام الدولي، وإنهاء الهيمنة الغربية التي استمرت لعقود.
وكذلك استخدام تايوان كورقة ضغط فالأخيرة ليست مجرد جزيرة، بل ورقة ضغط تستخدمها واشنطن في كل مفاوضاتها مع الصين.
كلما اقتربت بكين من تحقيق إنجازات اقتصادية أو دبلوماسية، تعمد الولايات المتحدة إلى إثارة قضية تايوان، عبر زيارات رسمية، أو صفقات تسليح، أو تصريحات استفزازية، بهدف تشتيت الانتباه، وخلق أزمات جانبية.
الإعلام الغربي.. تشويه ممنهج للصين
الإعلام الغربي يتعامل مع الصين بخطاب مزدوج: فهو يهاجمها حين تدافع عن سيادتها، ويصمت حين تنتهك الولايات المتحدة القانون الدولي. في قضية تايوان، يُقدَّم الانفصاليون كمدافعين عن الديمقراطية، بينما تُصوَّر الصين كقوة استبدادية، رغم أن بكين لم تستخدم القوة ضد الجزيرة حتى الآن، وتدعو باستمرار إلى الحوار والتوحيد السلمي.
وتقوم بتزييف الحقائق فالعديد من التقارير الغربية تتجاهل حقيقة أن تايوان لم تكن يوماً دولة مستقلة، وأن معظم دول العالم لا تعترف بها. كما تُغفل هذه التقارير الدعم الأميركي للأنشطة الانفصالية، وتُضخّم من حجم التهديد الصيني، في محاولة لتبرير التدخل العسكري والسياسي في المنطقة.
الموقف الإقليمي.. بين الحذر والتواطؤ
يعتبر كلاً من اليابان وكوريا الجنوبية أدوات في يد واشنطن وعلى رغم الخلافات التاريخية بينهما، فإنهما اليوم تتحركان وفق الأجندة الأميركية، ويشاركان في بيانات وتصريحات تستهدف الصين. هذا التواطؤ لا يعكس مصالح شعوب المنطقة، بل خضوعاً للضغوط الأميركية، التي تستخدم التحالفات الأمنية كوسيلة لفرض إرادتها على الدول الحليفة.
أمّا دول جنوب شرق آسيا فالحذر سيد الموقف، دول مثل الفلبين، ماليزيا، وإندونيسيا، التي لها مصالح مباشرة في بحر الصين الجنوبي، تراقب الوضع بحذر. فهي لا تريد التصعيد، لكنها تخشى من الهيمنة الأميركية، وتدرك أن الاستقرار لا يتحقق إلا عبر الحوار الإقليمي، وليس عبر التدخلات الخارجية.
القانون الدولي.. بين المبادئ والمصالح
القانون الدولي ينص بوضوح على احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. الصين، في موقفها من تايوان، تستند إلى هذا المبدأ، وتطالب العالم باحترامه. لكن الولايات المتحدة، التي تدّعي الدفاع عن القانون، تنتهكه باستمرار، عبر دعم الانفصاليين، وتجاهل قرارات الأمم المتحدة.
حين يتعلق الأمر بالصين، تُستخدم مفاهيم مثل «حقوق الإنسان» و«الديمقراطية» كأدوات سياسية، لا كمبادئ قانونية. أمّا حين تنتهك واشنطن سيادة دول أخرى، فإن الإعلام الغربي يبرر ذلك باسم «الحرب على الإرهاب» أو «نشر الديمقراطية».
معركة السيادة مستمرة
في ظل عالم مضطرب، تتصاعد فيه النزاعات وتتشابك فيه التحالفات، تبرز الصين كقوة عقلانية تدافع عن سيادتها، وتطالب باحترام القانون الدولي، وتدعو إلى الحوار والتشاور. قضية تايوان ليست مجرد نزاع إقليمي، بل اختبار حقيقي لمفهوم السيادة في عصر الهيمنة الأميركية.
البيان الثلاثي الصادر عن واشنطن وطوكيو وسيول ليس سوى حلقة جديدة في سلسلة التدخلات الغربية، التي تهدف إلى تقويض وحدة الصين، وتشويه صورتها، وعرقلة صعودها العالمي. لكن بكين، بثباتها الاستراتيجي، تواصل الدفاع عن مصالحها الوطنية، وتؤكد أن قضية تايوان شأن داخلي لا يقبل المساومة أو التدخل.
