واحدة من أكثر النقاط حساسية في الجغرافيا السياسية المعاصرة

باغرام.. بين أطماع النفوذ الأميركي وتحديات السيادة الأفغانية

/ في قلب آسيا الوسطى، وعلى بعد خطوات من حدود الصين، تبرز قاعدة باغرام الجوية كواحدة من أكثر النقاط حساسية في الجغرافيا السياسية المعاصرة. حين يُستعاد اسمها في أروقة السياسة الدولية، لا يكون الحديث عن مدرجات طائرات أو منشآت مهجورة، بل عن عقدة استراتيجية متشابكة، وعن ذاكرة طويلة من التدخلات، وعن أداة رمزية تُستخدم لإيصال رسائل القوة وإعادة رسم خرائط النفوذ.
من منشأة سوفيتية إلى مركز الهيمنة الأميركية
أنشأ الاتحاد السوفيتي قاعدة باغرام في سبعينيات القرن الماضي لتكون منصة لعملياته العسكرية خلال احتلاله لأفغانستان. وبعد انسحابه، دخلت القاعدة في حالة من الجمود، حتى أعادت الولايات المتحدة تأهيلها عقب هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، لتتحول إلى مركز عمليات متكامل في إطار «الحرب على الإرهاب». احتضنت القاعدة مدرجين للطائرات، ومرافق صيانة، ومراكز استخبارات، ومستشفيات ميدانية، إضافة إلى منشآت احتجاز مثيرة للجدل، ما جعلها رمزاً مزدوجاً: قوة عسكرية من جهة، وانتهاكات حقوقية من جهة أخرى. هذا ولم تكن القيمة الاستراتيجية لباغرام محصورة في بنيتها التحتية، بل في قدرتها على الدمج بين الوظائف العسكرية والاستخباراتية والدبلوماسية. فقد وفّرت زمن استجابة منخفض، وربطت الميدان بمراكز القرار في واشنطن، ودعمت عمليات جوية متعددة المهام. هذا التداخل جعل منها منصة لإنتاج تأثير سياسي يتجاوز حدود أفغانستان، ويصل إلى دوائر صنع القرار في العواصم الإقليمية والدولية.
لحظة الانكشاف الاستراتيجي
في أغسطس/ آب 2021، انسحبت الولايات المتحدة من باغرام في مشهد فوضوي، ترك فراغاً أمنياً سرعان ما ملأته حركة طالبان. هذا الانسحاب لم يكن مجرد نهاية لتدخل عسكري، بل لحظة انكشاف استراتيجي كشفت حدود القوة الصلبة في صناعة واقع سياسي مستدام. ومع تصاعد التوترات الدولية، عاد الحديث عن استعادة القاعدة، في ظل رغبة أميركية بإعادة تموضعها في منطقة تشهد تنافساً متزايداً بين القوى الكبرى.
وتجدر الإشارة أن الولايات المتحدة بدأت تدخلها العسكري في أفغانستان في أكتوبر/ تشرين الأول 2001، تحت شعار محاربة الإرهاب، مستهدفةً تنظيم القاعدة وحركة طالبان. في البداية، رُوّج للتدخل على أنه خطوة نحو بناء دولة ديمقراطية حديثة، لكن سرعان ما تكشفت الأهداف الأعمق التي تقف خلف هذا المشروع، والتي شملت السيطرة على الموارد الطبيعية، فرض نموذج سياسي يخدم المصالح الغربية، وتطويق النفوذ الصيني والروسي في قلب آسيا.
قاعدة باغرام كانت في صلب هذا المشروع، حيث أُديرت منها العمليات العسكرية، واحتُجز فيها آلاف المعتقلين، بعضهم تعرض لانتهاكات جسيمة، ما جعلها رمزاً للوجه المظلم للتدخل الأميركي. ومع مرور الوقت، بدأت تظهر مؤشرات الفشل: تصاعد المقاومة الشعبية، تراجع الدعم الدولي، تفشي الفساد داخل المؤسسات الأفغانية، وانهيار الثقة بين المواطن والدولة المدعومة أميركياً.
القواعد العسكرية أدوات للنفوذ 
في مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، أعلن ترامب أن إدارته تسعى لاستعادة قاعدة باغرام، مبرراً ذلك بأهميتها الاستراتيجية لقربها من مواقع تصنيع الأسلحة النووية في الصين. هذا التصريح لم يكن مجرد إعلان عسكري، بل حمل في طياته رسائل سياسية وأمنية متعددة، أبرزها أن الولايات المتحدة لا تزال ترى في آسيا الوسطى ساحة صراع مفتوحة، وأنها مستعدة للعودة إلى أفغانستان إذا اقتضت مصالحها ذلك.
ترامب، الذي يُعرف بأسلوبه الصدامي، وصف نفسه بأنه «رجل أعمال ومفاوض بارع»، مشيراً إلى أن استعادة باغرام قد تتم عبر صفقة سياسية أو تفاهمات أمنية. هذا الطرح يعكس رؤية براغماتية ترى في القواعد العسكرية أدوات للنفوذ، وليست مجرد منشآت دفاعية.
كابول: لا مكان للوجود العسكري الأميركي 
في ردٍّ مباشر على تصريحات ترامب أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الأفغانية، مستشار الوزير ذاكر جلالي، أن «الوجود العسكري الأميركي في أفغانستان أصبح مستحيلاً». وأكد «أن الشعب الأفغاني لم يتقبل يوماً وجود قوات أجنبية على أراضيه، مشيراً إلى أن اتفاقية الدوحة نصّت بوضوح على إنهاء هذا الوجود». وأضاف:«أن العلاقات بين كابول وواشنطن يمكن أن تستمر على أسس سياسية واقتصادية قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، دون الحاجة إلى قواعد عسكرية أميركية داخل البلاد.» من الناحية القانونية، يُعد أي وجود عسكري أميركي في أفغانستان دون موافقة رسمية انتهاكاً صارخاً للسيادة الوطنية. الدستور الأفغاني، يرفض أي تدخل أجنبي دون اتفاق سياسي واضح. التاريخ الأفغاني مليء بالمقاومة الشعبية ضد الاحتلال، من البريطانيين إلى السوفييت، وصولاً إلى الأميركيين، ما يجعل أي محاولة للعودة دون تفاهم محفوفة بالمخاطر القانونية والسياسية.إذا اختارت واشنطن استعادة باغرام بالقوة أو عبر ضغوط سياسية، فإن ذلك قد يُشعل مواجهات جديدة، ويُعيد سيناريوهات الحرب التي أنهكت البلاد. 
باغرام في قلب الصراع الأميركي الصيني
في ظل تصاعد التوترات بين واشنطن وبكين، تُعد باغرام نقطة مراقبة مثالية على الحدود الصينية، خصوصاً مع تنامي المخاوف الأميركية من توسع النفوذ الصيني في آسيا، وتزايد الحديث عن الترسانة النووية الصينية. تصريحات ترامب حول استعادة القاعدة جاءت في سياق التأكيد على أن الولايات المتحدة لن تتخلى عن أدوات وجودها الاستراتيجي، وأنها قادرة على التواجد في خاصرة الصين الجغرافية. من جهتها روسيا، التي تراقب عن كثب التحركات الأميركية في آسيا الوسطى، قد تُعيد حساباتها الأمنية، وتُعزز وجودها العسكري في الجمهوريات المجاورة. استعادة باغرام قد تُفسر في موسكو كخطوة استفزازية، ما يدفعها إلى تعميق تحالفاتها الإقليمية، وربما إعادة نشر قواتها في مناطق استراتيجية.
واشنطن لم تتخلَّ عن أدوات نفوذها
الحديث عن استعادة باغرام يتضمن مزيجاً من الدوافع العملية والسياسية. من جهة، تمنح القاعدة قدرة زمنية على المراقبة والرد في منطقة حيوية. ومن جهةٍ أخرى، تحمل المطالبة بها رسائل داخلية تُشبِع قاعدة انتخابية تبحث عن دلالات القوة، ورسائل خارجية تؤكد أن واشنطن لم تتخلَّ عن أدوات نفوذها. كما أن إعادة تشغيل قاعدة باغرام ليست مجرد قرار عسكري، بل مشروع معقد يتطلب موازنة دقيقة بين المنفعة الاستراتيجية والتكلفة المالية والسياسية. على المستوى المالي، تحتاج القاعدة إلى استثمارات ضخمة لإعادة تأهيل بنيتها التحتية. سياسياً، يجب على الإدارة الأميركية تبرير هذا الإنفاق أمام ناخب يطالب بتحسين الاقتصاد والرعاية الصحية. دبلوماسياً، قد تُحفز هذه الخطوة تحركات مضادة من قوى إقليمية، ما يزيد من تعقيد المشهد. أمنياً، حماية القاعدة تتطلب منظومة متكاملة، وقد تُعرض قوافل الإمداد لتهديدات مستمرة.
سيناريوهات العودة
تتراوح السيناريوهات بين إعادة فتح القاعدة كمنصة استخباراتية منخفضة الظهور، أو كشراكة لوجستية متعددة الجنسيات، أو كوجود قتالي جزئي. كل خيار يحمل مزايا ومخاطر متفاوتة، ويعكس أهدافاً مختلفة: من جمع المعلومات إلى خلق قدرة ردع. لكن جميعها يتطلب توافقاً سياسياً داخلياً وخارجياً، وضمانات قانونية وأمنية. ولكن كيف سيقرأ العالم هذه الخطوة؟
أي تحرك أميركي نحو استعادة باغرام سيُقرأ في اتجاهين: الأول، أثره المباشر على توازن القوى الإقليمي؛ والثاني، دلالته السياسية على التزام واشنطن بالوجود العالمي. دول الجوار ستعيد ضبط تحالفاتها، وقد تُوظف سياساتها لاحتواء النفوذ الجديد. القوى الكبرى ستراقب عن كثب، وقد ترد بتعميق علاقاتها البديلة، ما يعني أن التأثير قد يتجاوز أفغانستان ليصل إلى إعادة تشكيل سلاسل التحالفات الإقليمية وربما خلق قطبية موازية في سياسات النفوذ.
باغرام؛ مرآة لتحولات القوة
في عالم يتغير بوتيرة متسارعة، لم تعد القواعد العسكرية مجرد منشآت تشغيلية، بل تحولت إلى رموز تعكس فلسفة النفوذ وأدواته. قاعدة باغرام ليست فقط نقطة ارتكاز لوجستي أو مركز استخباراتي، بل مرآة تعكس كيف تُدار القوة، وكيف تُوظف الرمزية في خدمة الاستراتيجية.
الحديث عن استعادة باغرام لا يمكن فصله عن التحولات الكبرى في بنية النظام الدولي، حيث تتراجع الهيمنة الأحادية لصالح تعددية قطبية، وتُعاد صياغة مفاهيم الردع والتدخل والتحالف. 
البحث
الأرشيف التاريخي