بعد تصنيف «أنتيفا» كمنظمة إرهابية كبرى..

أميركا في مواجهة ذاتها.. هل بدأ الانهيار من الداخل؟

/ في لحظة سياسية مشحونة، أعلن ترامب في سبتمبر/ أيلول 2025 تصنيف حركة «أنتيفا» اليسارية كـ«منظمة إرهابية كبرى»، في خطوة أثارت عاصفة من الجدل داخل الولايات المتحدة وخارجها. القرار جاء بعد أسبوع من اغتيال «تشارلي كيرك»، أحد أبرز وجوه اليمين المحافظ، ما أضفى على المشهد السياسي الأميركي طابعاً أكثر توتراً واستقطاباً. لكن خلف هذا الإعلان، تتكشف أزمة أعمق بكثير من مجرد خلاف حول تصنيف حركة سياسية: أزمة انقسام داخلي متسارع، تصاعد في العنف السياسي، وتآكل في الثقة بالمؤسسات الديمقراطية. فهل تقف أميركا على أعتاب تفكك داخلي؟ وهل باتت الميليشيات المتطرفة تهديداً حقيقياً لاستمرار الدولة الأميركية؟
جذور حركة «أنتيفا» وأيديولوجيتها
حركة «أنتيفا» ليست حزباً سياسياً تقليدياً، ولا تمتلك قيادة مركزية أو هيكلاً تنظيمياً واضحاً. هي بالأحرى شبكة فضفاضة من النشطاء الذين يتشاركون أيديولوجيا مناهضة للفاشية، ويؤمنون بأن مواجهة التطرف اليميني لا يجب أن تكون سلمية دائماً. ظهرت الحركة بشكلٍ بارز في الولايات المتحدة بعد انتخاب ترامب عام 2016، لكنها تستمد جذورها من الحركات المناهضة للفاشية في أوروبا خلال ثلاثينيات القرن الماضي، خصوصاً في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية. أيديولوجياً، تنتمي «أنتيفا» إلى أقصى اليسار، وتتبنى مواقف مناهضة للعنصرية، للرأسمالية، وللتمييز الطبقي. أعضاؤها غالباً ما يصفون أنفسهم بأنهم اشتراكيون، فوضويون، أو شيوعيون، ويؤمنون بأن مواجهة الفاشية لا يجب أن تكون سلمية دائماً، بل قد تتطلب مواجهة عنيفة. هذا المبدأ هو ما يجعلها عرضة للاتهام بالعنف، ويضعها في مرمى سهام اليمين الأميركي.
 من الاحتجاجات إلى التصنيف الإرهابي
قرار ترامب بتصنيف «أنتيفا» كمنظمة إرهابية لم يكن مفاجئاً تماماً، فقد سبق أن وصفها بذلك خلال احتجاجات 2020 التي أعقبت مقتل جورج فلويد، حيث اتُهمت الحركة بالضلوع في أعمال شغب وعنف ضد الشرطة والممتلكات العامة. لكن إعلان سبتمبر/أيلول 2025 جاء في سياق أكثر تصعيداً، بعد اغتيال تشارلي كيرك، أحد أبرز وجوه اليمين المحافظ، على يد قناص يُشتبه بانتمائه لأوساط يسارية.
هذا الحدث شكل نقطة تحول في الخطاب السياسي الأميركي، إذ بدأ ترامب يتحدث عن «إرهاب داخلي يساري» وضرورة التحقيق في تمويل «أنتيفا»، واصفاً إياها بأنها «كارثة يسارية راديكالية مريضة وخطرة». هذا التصعيد لم يكن مجرد رد فعل على حادثة اغتيال، بل كان جزءاً من استراتيجية أوسع لإعادة تشكيل المشهد السياسي الأميركي عبر شيطنة خصومه الأيديولوجيين.
أميركا.. يسار راديكالي مقابل يمين متطرف
الولايات المتحدة اليوم ليست فقط منقسمة سياسياً، بل باتت تعيش حالة من الاستقطاب الأيديولوجي الحاد. على أحد الطرفين، تقف مجموعات مثل «أنتيفا» التي ترى في النظام الرأسمالي والسلطة البيضاء تهديداً للعدالة الاجتماعية. وعلى الطرف الآخر، تقف ميليشيات يمينية مثل «براود بويز» و«Oath Keepers»، التي تؤمن بتفوق العرق الأبيض وتعارض أي تغيير ديموغرافي أو ثقافي.
هذا الانقسام تجلى بوضوح في أحداث شارلوتسفيل عام 2017، حين اصطدمت مجموعات من «أنتيفا» مع قوميين بيض، ما أدى إلى مقتل متظاهرة وجرح العشرات. كما ظهر في اقتحام مبنى الكابيتول في يناير/ كانون الثاني 2021، حين شارك أنصار ترامب في محاولة لقلب نتائج الانتخابات، وسط اتهامات متبادلة بين اليمين واليسار حول من يتحمل مسؤولية العنف.
الخطاب السياسي لم يعد يدور حول السياسات الاقتصادية أو الخارجية، بل حول تعريف «أميركا» نفسها: هل هي دولة ليبرالية متعددة الأعراق والثقافات؟ أم دولة محافظة بيضاء ذات جذور مسيحية؟ هذا الصراع الوجودي يعمّق الانقسام ويجعل من التعايش السياسي أمراً شبه مستحيل.
هل ما زالت أميركا دولة واحدة؟
الخطاب السياسي الأميركي في السنوات الأخيرة لم يعد مجرد انعكاس لتباينات حزبية أو اختلافات في السياسات الاقتصادية والخارجية، بل تحوّل إلى مرآة تعكس أزمة هوية وطنية متجذرة تهدد بتفكيك الإجماع التاريخي حول معنى «أميركا» نفسها. لم يعد السؤال المطروح داخل الأروقة السياسية والإعلامية هو كيف تُدار الدولة، بل من يملك الحق في تمثيلها؟ من يُعتبر «أميركياً حقيقياً»؟ ومن يحق له أن يرسم ملامح مستقبلها؟
هذه الأزمة تتجاوز الخلافات التقليدية بين الجمهوريين والديمقراطيين، لتصل إلى جوهر الانتماء الوطني. فهناك من يرى أن الولايات المتحدة يجب أن تظل دولة محافظة، ذات طابع مسيحي أبيض، تستند إلى قيم تقليدية مثل الفردانية، السوق الحرة، والهوية الثقافية الموحدة. في المقابل، هناك تيار متنامٍ يدعو إلى إعادة تعريف أميركا كدولة ليبرالية متعددة الأعراق والثقافات، تحتضن التنوع وتعيد النظر في إرثها التاريخي من العنصرية والاستعمار.
هذا الصراع الهوياتي لا يدور فقط في أروقة الكونغرس أو على شاشات التلفزة، بل يتجلى في المدارس، والجامعات، ووسائل التواصل الاجتماعي، وحتى في الشوارع. فكل نقاش حول الهجرة، التعليم، الشرطة، أو حتى الرموز الوطنية، بات يحمل في طياته سؤالاً ضمنياً: أي أميركا نريد؟ هل هي أميركا التعددية التي تحتضن الجميع؟ أم أميركا الانغلاق الثقافي والحنين إلى الماضي؟
هذا الصراع الوجودي يتغذى من الإعلام الحزبي، ومنصات التواصل الاجتماعي، والانقسامات الجغرافية بين الولايات الزرقاء (الديمقراطية) والحمراء (الجمهورية). حتى المؤسسات الفيدرالية، مثل مكتب التحقيقات الفيدرالي، باتت تُتهم بالتحيز السياسي، ما يضعف ثقة المواطنين بها ويزيد من احتمالات الانفجار الداخلي.
الخطير في هذا الانقسام أنه لم يعد مجرد جدل فكري، بل تحوّل إلى معركة وجودية بين رؤيتين متناقضتين، كل واحدة منهما ترى الأخرى تهديداً مباشراً لبقاء الأمة. ومع تزايد الاستقطاب، وتراجع القدرة على الحوار، باتت الولايات المتحدة مهددة بفقدان قدرتها على إنتاج سردية وطنية جامعة، وهي السردية التي لطالما شكلت العمود الفقري لوحدتها السياسية والاجتماعية.
أنتيفا ليست وحدها في هذا المشهد 
الميليشيات المتطرفة، سواء كانت يسارية أو يمينية، باتت تشكل تهديداً حقيقياً لاستقرار الدولة الأميركية. فغياب القيادة المركزية، وانتشار السلاح، وتنامي الخطاب التحريضي، كلها عوامل تجعل من هذه الجماعات قنابل موقوتة.
أنتيفا «ليست وحدها في هذا المشهد، فهناك أيضاً جماعات مثل«Boogaloo Boys»،«Three Percenter»، و«Atomwaffen Division»، التي تؤمن بالعنف كوسيلة للتغيير. هذه الجماعات لا تعترف بشرعية الحكومة الفيدرالية، وتستعد لحرب أهلية محتملة، ما يثير مخاوف من تفكك الدولة أو على الأقل انهيار النظام الديمقراطي.
الخطير في هذه الميليشيات أنها لا تتحرك وفق منطق سياسي تقليدي، بل وفق عقائد متطرفة ترى في العنف وسيلة مشروعة لتحقيق أهدافها. ومع تزايد حالات الاشتباك المسلح، وظهور خلايا شبه عسكرية في بعض الولايات، بات من الصعب تجاهل هذا التهديد الذي يتجاوز مجرد الاحتجاجات أو العصيان المدني.
 الولايات الامريكية..  نزوع نحو الانفصال 
رغم أن فكرة تفكك الولايات المتحدة قد تبدو للوهلة الأولى ضرباً من المبالغة، إلا أن الواقع الأميركي الراهن يكشف عن مؤشرات لا يمكن تجاهلها. فالدعوات المتكررة لانفصال بعض الولايات، وعلى رأسها كاليفورنيا وتكساس، لم تعد مجرد شعارات احتجاجية بل تحولت إلى مشاريع سياسية تناقش في برلمانات محلية وتلقى تأييداً شعبياً متزايداً، خاصة في ظل شعور متنامٍ بالاغتراب عن الحكومة الفيدرالية. هذا النزوع نحو الانفصال يعكس أزمة ثقة عميقة في وحدة الدولة ومؤسساتها. في الوقت ذاته، يشهد المشهد السياسي الأميركي تصاعداً غير مسبوق في العنف، تجلى في اغتيال شخصيات عامة، وتهديدات متكررة تطال مسؤولين منتخبين، وصدامات دامية بين أنصار تيارات متعارضة. هذا العنف لا ينبع فقط من خلافات سياسية، بل من انقسامات ثقافية وأيديولوجية باتت تلامس جوهر الهوية الأميركية. 
الأخطر من ذلك هو التآكل المستمر في الثقة بالمؤسسات الديمقراطية، إذ باتت قطاعات واسعة من الشعب الأميركي تشكك في نزاهة الانتخابات، وحيادية القضاء، وصدقية الإعلام. هذا التراجع في الثقة يُغذي انتشار نظريات المؤامرة التي تروج لها منصات إعلامية حزبية، وتؤدي إلى تسييس القضاء وتحويله إلى ساحة صراع بين القوى المتناحرة، بدلاً من أن يكون حصناً للعدالة. ولعل الأكثر اثارة هو الانقسام المتزايد داخل الأجهزة الأمنية والعسكرية، إذ ظهرت مؤشرات على وجود ولاءات حزبية متضاربة بين عناصر الجيش والشرطة، ما يهدد حيادية هذه المؤسسات ويضعف قدرتها على حفظ النظام في حال اندلاع اضطرابات واسعة النطاق. كل هذه العوامل مجتمعة تشير إلى أن الولايات المتحدة لم تعد ذلك النموذج المتماسك للدولة الموحدة تحت راية واحدة.
البحث
الأرشيف التاريخي