تم الحفظ في الذاكرة المؤقتة...
في مشهد عسكري يعكس تحولات عميقة في ميزان القوى
أوروبا ترسم حدودها في القطب الشمالي بعيداً عن أمريكا
مناورات في قلب التوتر
المناورات التي جرت بالتنسيق مع حكومة غرينلاند، شهدت مشاركة وزراء دفاع من الدنمارك، آيسلندا، والنرويج، إلى جانب قوات من فرنسا والسويد الأعضاء في حلف الناتو. وزير الدفاع الدنماركي، ترويلس لوند بولسن، وصف الحدث بأنه «مثال جيد على التزامنا المشترك بتعزيز قدرة القوات المسلحة على التعامل مع التهديدات في المنطقة القطبية الشمالية».
لكن خلف هذا التصريح الرسمي، تكمن رسائل سياسية واضحة، أوروبا تتحرك لتأكيد وجودها في منطقة لطالما كانت تحت عين واشنطن، التي تدير قاعدة جوية في شمال الجزيرة، وتنتقد الدنمارك لعدم الاستثمار الكافي في الدفاع عنها.
غرينلاند.. الجزيرة التي لا تنام
غرينلاند ليست مجرد جزيرة جليدية مترامية الأطراف، بل هي كنز استراتيجي غني بالموارد الطبيعية، وموقع مثالي للرصد العسكري واللوجستي في قلب القطب الشمالي. منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض، لم يخفِ رغبته في السيطرة على الجزيرة، بل أعاد إحياء خطابه القديم حول «امتلاكها»، ما أثار موجة من التوترات الدبلوماسية مع الدنمارك.
في أغسطس/ آب، كشفت هيئة البث الدنماركية عن نشاطات لثلاثة أمريكيين مرتبطين بترامب لتعزيز النفوذ الأمريكي في الجزيرة، في خطوة اعتبرها كثيرون محاولة غير مباشرة للتمهيد لوجود أمريكي أوسع.
أمريكا.. بين الطموح والعجرفة
الولايات المتحدة، التي لطالما تصرفت كقوة فوق القانون الدولي، لا ترى في غرينلاند مجرد حليف ضمن الناتو، بل تعتبرها «أرضاً استراتيجية يجب أن تكون تحت السيطرة الأمريكية». هذا المنطق الاستعلائي تجلى في تصريحات ترامب، وفي مشروع قانون أقره البرلمان الدنماركي في يونيو/ حزيران، يتيح لواشنطن إقامة قواعد عسكرية دائمة على الأراضي الدنماركية، مع صلاحيات أمنية وقضائية واسعة، حتى على المدنيين. هذا الاتفاق، الذي وصفه حزب «الوحدة» اليساري بأنه «تنازل فعلي عن السيادة»، يعكس كيف تتعامل واشنطن مع حلفائها، ليس كشركاء، بل كتوابع يجب أن تنصاع لرغباتها الأمنية والاقتصادية.
أوروبا.. استقلالية استراتيجية أم تحدٍ لأمريكا؟
المناورات الأوروبية في غرينلاند، رغم أنها تحت مظلة الناتو، تحمل في طياتها رسالة مزدوجة: أولاً، تأكيد على أهمية المنطقة القطبية في الحسابات الأمنية الأوروبية؛ وثانياً، رفض ضمني للهيمنة الأمريكية التي تحاول فرض نفسها حتى على أراضي ليست لها.
وزير الدفاع الدنماركي لم يخفِ قلقه من تصاعد التهديدات في المنطقة، مشيراً إلى أن بلاده ستستثمر مليارات الكرونات في شراء طائرات استطلاع أمريكية الصنع من طراز P-8، لكنها تفضل أن يتم ذلك ضمن إطار جماعي مع شركاء الناتو، لا كصفقة فردية تمليها واشنطن.
الجليد يكشف عن كنوز دفينة
في السنوات الأخيرة، تحولت غرينلاند من جزيرة نائية إلى نقطة ارتكاز في الصراع العالمي على النفوذ في القطب الشمالي. السبب لا يعود فقط إلى موقعها الجغرافي، بل إلى التغيرات المناخية التي جعلت الوصول إلى مواردها أسهل، وفتحت طرقاً بحرية جديدة كانت مغلقة لعقود. ذوبان الجليد كشف عن كنوز دفينة من المعادن النادرة، والنفط، والغاز، ما جعلها هدفاً مغرياً للقوى الكبرى.
الولايات المتحدة، روسيا، الصين، وحتى الاتحاد الأوروبي، باتوا ينظرون إلى القطب الشمالي كمنطقة استراتيجية لا تقل أهمية عن الخليج الفارسي أو بحر الصين الجنوبي. وغرينلاند، بحكم موقعها، أصبحت بوابة هذا الصراع.
الصين تدخل على الخط
في خضم التوترات بين واشنطن وأوروبا، دخلت الصين على الخط، مقدّمة نفسها كلاعب اقتصادي لا عسكري. عبر مبادرة «الحزام والطريق»، طرحت بكين فكرة «طريق الحرير القطبي»، الذي يمر عبر المياه المفتوحة حديثاً في القطب الشمالي، ويصل إلى أوروبا عبر غرينلاند وآيسلندا.
الصين استثمرت في مشاريع بنية تحتية في غرينلاند، من بينها موانئ ومراكز أبحاث، ما أثار قلقاً أمريكياً متزايداً. واشنطن ترى في هذه الخطوات محاولة صينية للتموضع الاستراتيجي في منطقة تعتبرها «حديقتها الخلفية»، بينما تصر بكين على أن مشاريعها «اقتصادية بحتة”.لكن الواقع يقول إن أي وجود اقتصادي في منطقة ذات أهمية عسكرية، لا يمكن فصله عن الطموحات الجيوسياسية.
الناتو في مأزق أمام الأطماع الأمريكية
غياب الولايات المتحدة عن مناورات «أركتيك لايت 2025» يطرح سؤالاً جوهرياً: هل بدأ الناتو يفقد تماسكه؟ الحلف الذي تأسس على مبدأ الدفاع الجماعي، بات يعاني من انقسامات داخلية، خاصةً بعد عودة ترامب إلى البيت الأبيض، الذي لا يخفي انتقاده للحلف، ويطالب الدول الأوروبية بزيادة إنفاقها العسكري.
الدنمارك، رغم كونها عضواً في الناتو، تجد نفسها في موقف حرج وذلك بين رغبتها في الحفاظ على استقلالية غرينلاند، وبين ضغوط واشنطن التي تريد تحويل الجزيرة إلى قاعدة أمامية في مواجهة روسيا والصين. المناورات الأوروبية الأخيرة قد تكون محاولة لإعادة تعريف دور الناتو، بعيداً عن الهيمنة الأمريكية، لكن هل تنجح أوروبا في بناء استراتيجية دفاعية مستقلة؟ أم أن الحلف سيبقى رهينة للمزاج الأمريكي؟
صوت مغيّب في لعبة الكبار
وسط كل هذه التحركات العسكرية والدبلوماسية، يبقى صوت السكان الأصليين في غرينلاند شبه مغيّب. شعب الإنويت، الذي يعيش في الجزيرة منذ آلاف السنين، يواجه تحديات وجودية: من التغير المناخي الذي يهدد نمط حياتهم التقليدي، إلى الأطماع الدولية التي تتجاهل حقوقهم في الأرض والموارد.
حكومة غرينلاند، رغم تمتعها بالحكم الذاتي، لا تزال تخضع لسياسات كوبنهاغن، التي بدورها تتعرض لضغوط أمريكية. السكان المحليون يطالبون بمزيد من الاستقلال، بل إن بعض الأحزاب في الجزيرة تدعو إلى الانفصال الكامل عن الدنمارك. لكن في ظل التنافس الدولي، هل يُسمح لغرينلاند بأن تقرر مصيرها؟ أم أن الجزيرة ستبقى ورقة في لعبة الكبار؟
هل تصبح غرينلاند ساحة للحرب ؟
كل المؤشرات تدل على أن غرينلاند لن تبقى منطقة هادئة. التغير المناخي، الأطماع الاقتصادية، التنافس العسكري، والانقسامات السياسية، كلها عوامل تجعل من الجزيرة ساحة محتملة لحرب باردة جديدة. الولايات المتحدة، التي تدير قاعدة «ثول» الجوية في شمال الجزيرة، قد تسعى لتوسيع وجودها العسكري. روسيا، التي تراقب التحركات الغربية عن كثب، قد ترد عبر تعزيز وجودها في القطب الشمالي. الصين، من جهتها، ستواصل الاستثمار الاقتصادي، مع احتمال تطوير قدرات لوجستية في المنطقة .وفي وسط هذا كله، تبقى أوروبا أمام خيارين: إما الانصياع للهيمنة الأمريكية، أو بناء تحالفات جديدة تعيد التوازن إلى المنطقة.
فصل جديد في الصراع الجيوسياسي العالمي
ما جرى في غرينلاند في سبتمبر/ أيلول 2025 ليس مجرد مناورات عسكرية، بل هو فصل جديد في كتاب الصراع الجيوسياسي العالمي. أوروبا تحاول إثبات استقلاليتها، والولايات المتحدة تواصل فرض أجندتها، حتى على حلفائها. وغرينلاند، تلك الجزيرة الجليدية، تتحول إلى ساحة اختبار حقيقية لمستقبل العلاقات الدولية.
في زمن تتغير فيه التحالفات، وتتصاعد فيه الأطماع، تبقى غرينلاند رمزاً لصراع السيادة، ومؤشراً على أن العالم لم يعد يحتمل عجرفة القوى الكبرى. فهل نشهد قريباً تحولات أعمق في بُنية الناتو؟ وهل تستطيع أوروبا أن تقول «لا» لواشنطن؟ أم أن الهيمنة الأمريكية ستجد طريقها، كما فعلت دائماً، عبر القوة والضغط؟
لكن الأهم من كل ذلك، أن غرينلاند لم تعد مجرد جزيرة على هامش الخرائط، بل أصبحت مرآة تعكس التوترات العالمية، وتكشف هشاشة التوازنات القائمة. في قلب الجليد، تنصهر السياسات، وتتشكل تحالفات جديدة، وقد تكون هذه المناورات بداية لعصر قطبي جديد، لا تحدده فقط الجغرافيا، بل الإرادة السياسية لمن يجرؤ على كسر قواعد اللعبة القديمة.
غرينلاند اليوم ليست للبيع، لكنها أيضاً ليست بمنأى عن المزادات الجيوسياسية. ومن يظن أن الجليد يحفظ الأسرار، عليه أن ينظر جيداً إلى ما يحدث هناك: فكل خطوة عسكرية، وكل تصريح سياسي، وكل استثمار اقتصادي، هو رسالة مشفّرة في حرب باردة تتجدد، ولكن هذه المرة في قلب القطب.
