السامية في الميزان.. ماذا عن أهل غزة؟ وماذا عن طهران؟
محمد جواد أرويلي
باحث إيراني متخصص بالتراث الثقافي
ما هي السامية؟
ما المقصود بـ«معاداة السامية»؟
هل يشمل هذا المفهوم أهل غزة الذين يُذبحون يوميًا بدم بارد؟
ولماذا يتكرر استخدام هذا المصطلح من قبل القيادات الغربية؟
أسئلة تُطرح بإلحاح مع كل أزمة كبرى، ومع كل انتقاد يُوجّه لإسرائيل، سواء تعلق بسياساتها أو جرائمها في غزة. فمصطلح «معاداة السامية»، الذي نشأ في أوروبا في القرن التاسع عشر، لم يعد يُستخدم في سياقه التاريخي المرتبط بالتمييز العنصري ضدّ اليهود، بل أصبح في السياق السياسي الغربي المعاصر أداة جاهزة لتكميم أي صوت ناقد للاحتلال الصهيوني، حتى وإن صدر عن دولة ذات سيادة.
في هذا السياق، اتخذت أستراليا قرارًا مفاجئًا بطرد السفير الإيراني بذريعة «معاداة السامية»، في وقت تشهد فيه المدن الأسترالية مظاهرات حاشدة ضدّ الإبادة الجماعية في قطاع غزة.
المفارقة أن مصطلح «السامية» يشمل من الناحية اللغوية والثقافية العرب أيضًا، وعلى رأسهم الفلسطينيين. فكيف أصبح الدفاع عنهم يُعدّ «معاداة للسامية»؟
الجمهورية الإسلامية الإيرانية أكدت مرارًا أنها لا تعترف بمفهوم «معاداة السامية» بالمعنى الغربي المتداول، لأن كل بني آدم -بمن فيهم الساميون- متساوون في القيمة والكرامة الإنسانية. فالمصطلح نفسه وليد الاضطهاد الأوروبي لليهود، وعلى الغرب أن يتحمل تبعات تاريخه، لا أن يُسقِط عقده على العالم الآخر.
اللافت أن إيران تميّز بوضوح بين الديانة اليهودية كعقيدة سماوية، وبين الصهيونية كمشروع استعماري توسعي، ما يجعل اتهامها بـ«معاداة السامية» خلطًا متعمدًا بين الدين والسياسية.
الشارع الأسترالي، منذ بداية العدوان على غزة، وكما شاهدنا في شاشات التلفاز ووكالات الأنباء وشبكات التواصل، شهد أكبر التظاهرات المؤيدة لفلسطين في تاريخ البلاد. ووفقًا لتقارير محلية، خرج ما يزيد عن 800 ألف متظاهر في مدن كبرى مثل سيدني وملبورن وأديلايد، مطالبين بوقف دعم إسرائيل، ومنددين بالمجازر اليومية التي ترتكب بحق الشعب الفلسطيني في غزة.
في هذا المناخ، تعرّضت الحكومة الأسترالية لضغط شديد، متهمة بالتقاعس في اتخاذ موقف حاسم. ويبدو أن قرار طرد السفير الإيراني جاء كـ«حركة توازن» سياسي، بهدف امتصاص الغضب المحلي، وتأكيد الولاء لتحالفاتها التقليدية، خاصة مع واشنطن وتل أبيب.
الساميون، لغويًا وثقافيًا، يشملون العرب واليهود والآشوريين وغيرهم من شعوب منطقة غرب آسيا؛ لكن في المنظومة السياسية الغربية، يُستخدم المصطلح كحاجز حماية حصري لإسرائيل، دون أي اعتبار للفلسطينيين الذين يُفترض أنهم من الشعوب السامية أيضًا.
وهنا تكمن المفارقة: مَن يدافع عن أطفال غزة يُتهم بمعاداة السامية، في حين أن السامية ذاتها لا تنطبق -حسب الاستخدام السياسي السائد- إلّا على طرف واحد!
بناء على هذه المعطيات، ما حدث مع السفير الإيراني في أستراليا ليس معزولًا عن السياق العام لمحاولات إسكات الصوت المعارض للعدوان الصهيوني. إنه جزء من حملة أوسع لإعادة تعريف المفاهيم لصالح قوى الاحتلال، ومحاولة لتجريم أي موقف داعم للمقاومة الفلسطينية أو مندد بجرائم الحرب الإسرائيلية.
من هذا المنطلق، ما حدث لا يمكن قراءته إلا في إطار الضغوط الدولية المتزايدة التي تمارسها بعض الدول الغربية لحماية إسرائيل من النقد والتجريم، حتى لو كان ذلك على حساب قواعد القانون الدولي أو مبادئ الحوار الدبلوماسي.
ويبقى السؤال: هل تستطيع الحكومات الغربية الاستمرار في تسويق مفاهيمها الخاصة دون مساءلة تاريخها، بينما تقمع الأصوات الأخرى باسم «معاداة السامية»؟
الجواب قد يتضح في ساحة الرأي العام العالمي، الذي يبدو اليوم أكثر وعيًا من أي وقت مضى.
