تم الحفظ في الذاكرة المؤقتة...
في ظل الإعتداءات المتكررة على السياسيين
لماذا يسيطر العنف على المشهد السياسي في تركيا؟
كان المحللون والمراقبون السياسيون قد توقعوا أنه بعد فترة من سجن أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول السابق، ستنتهي الاحتجاجات الشعبية وستدخل تركيا في فترة من الركود والسياسة الخطية الخالية من التوتر. وذلك لأن القضاء التركي، بناءً على طلب أردوغان، سجن عشرات النشطاء السياسيين وخاصة قادة حزب الشعب الجمهوري، وبات الخوف يخيم على جميع الأحزاب.
لكن هذا التوقع تبين أنه خاطئ، حيث أن الهجوم الجسدي على أوزغور أوزل، زعيم حزب الشعب الجمهوري، أدى مرة أخرى إلى التوتر والاضطراب.
في اليوم التالي للهجوم على أوزغور أوزل، لم تدن العديد من الصحف التابعة لحزب العدالة و التنمية هذا الهجوم فحسب، بل وصفته بأنه شخص خائن ومرتزق وخطير. كما اعتبر دولت باهتشلي، زعيم حزب الحركة القومية وشريك أردوغان السياسي، الهجوم عملاً تخريبياً مشبوهاً يهدف إلى الإضرار بسمعة تركيا. وأعلن أوزل قائلاً: «لا نخشى اللكمات والسكاكين ولا البنادق. سنواصل مسيرتنا».
قلق المعارضة
سلجوق تنغي أوغلو، منفذ الهجوم الجسدي على زعيم حزب الشعب الجمهوري، أدلى بتصريحات زادت من خوف وقلق قادة المعارضة.
وأعلن أوزل: «ذهب هذا الشخص قبل بضعة أسابيع إلى بلدية إسطنبول وأعلن أن لديه خبراً مهماً عن إمام أوغلو. وقد منحه أصدقاؤنا فرصة للإدلاء بتصريحاته. حيث قال: أخبرني بعض زملائي في سجن إسطنبول أنه من المقرر مهاجمة أكرم إمام أوغلو قريباً داخل السجن. لقد جئت لإخباركم أنه تم إعطاء التعليمات اللازمة لتنظيم هذا الهجوم، وعليكم حماية السيد إمام أوغلو. رفاقي في السجن لديهم أخبار مؤكدة عن محاولة اغتيال مرتقبة».
أعلنت وزارة الداخلية ومسؤولو الحزب الحاكم في تركيا: «المهاجم الذي ضرب جبين أوزل بقبضته لا علاقة له بالفروع الإقليمية لحزب العدالة و التنمية وقد قام بهذا العمل بشكل مستقل».
وأعلنت وسائل الإعلام التركية أن المهاجم قتل طفليه الصغيرين سابقاً وقضى سنوات طويلة في السجن. ما يقلق وسائل الإعلام المعارضة هو أن الهجوم على أوزل ليس حادثة منفصلة، بل جزء من سلسلة هجمات عنيفة سابقة. خلال السنوات القليلة الماضية، تعرض كمال كليتشدار أوغلو، الزعيم السابق لحزب الشعب الجمهوري، وميرال أكشنر، الزعيمة السابقة للحزب الجيد، وعدد من قادة حزب الديمقراطية والمساواة للشعوب، لهجمات متكررة من أشخاص يبدون ظاهرياً كمواطنين عاديين، لكن التحقيقات أظهرت لاحقاً أنهم جميعاً من المؤيدين المتحمسين للحزب الحاكم.
أسباب العنف
يُظهر استعراض العقود المختلفة للقرن الماضي أن العنف والهجمات كانت دائماً جزءاً من عالم الأنشطة السياسية والحزبية والتنظيمية في تركيا.
يغير العنف، من وقت لآخر، المشهد السياسي والاجتماعي التركي بطرق مختلفة. بدءاً من إعدام عدنان مندريس، رئيس الوزراء آنذاك، خلال انقلاب 1960، وصولاً إلى سجن وتعذيب آلاف النشطاء السياسيين خلال انقلاب 1980، وكذلك الضرب والقتل بالسكاكين، والاغتيال بالبنادق، والتهديدات، والأحداث المشبوهة مثل سقوط مروحية تقل محسن يازيجي أوغلو، الزعيم الراحل لحزب الوحدة الكبرى، وقتل صحفيين مثل أوغور مومجو وهرانت دينك وآخرين.
لذلك، فإن العنف والصراع في المشهد السياسي التركي له تقليد قديم وتاريخ طويل.
من الضروري هنا الإشارة إلى بعض أسباب ظهور العنف والنزاع الجسدي في عالم السياسة، وكذلك العوامل التي تعزز العنف:
أ) بعض الأحزاب التركية، بما في ذلك حزب الحركة القومية بقيادة دولت باهتشلي، تذهب بعيدًا في مجال الدعاية بشأن السياسات العرقية والقومية بأسلوب اليمين المتطرف لدرجة أن السيطرة على بعض المؤيدين المتشددين تصبح صعبة حتى على قادة الحزب أنفسهم. ينبغي أيضاً الإشارة إلى أن حزب الحركة القومية لديه العديد من الفروع المؤسسية بين المجموعات المعروفة باسم «المواقد القومية» التي لا يمكن إنكار ارتباطها طويل الأمد بالجماعات العنيفة.
ب) لا يمكن اعتبار هيكل الشرطة التركية مؤسسة بعيدة تماماً عن عالم السياسة والقضايا الحزبية والفصائلية. نتيجة لذلك، تشارك الشرطة التركية عملياً في بعض الهجمات، إما من خلال التغاضي والتقاعس أو من خلال ممارسة العنف، ويقوم السياسيون الأقوياء، باستخدام ضباطهم المتنفذين، بتنفيذ بعض الأعمال بطريقة غير قانونية.
ج) تقليد الخطابات الميدانية الحماسية واستخدام العبارات الحادة في خطب قادة الأحزاب في تركيا هو سبب آخر للعنف. في الجولة السابقة من الانتخابات الرئاسية، أعطى أردوغان في خطاب ميداني الميكروفون لطفل يبلغ من العمر 10 سنوات ليتحدث بحدة ضد كمال كليتشدار أوغلو. أدانت العديد من وسائل الإعلام التركية هذا الإجراء واعتبرته نموذجاً سلبياً للاستخدام الأداتي للأطفال في تحقيق الأهداف السياسية والحزبية، و في ذات الوقت فإن ردود المعارضة كانت حادة و تحريضية أيضاً.
د) مستوى الردع القانوني للتعامل مع مرتكبي النزاعات والعنف السياسي منخفض.
هـ) مجموعة واسعة من الصحف والشبكات التلفزيونية ومواقع الأخبار تؤجج نار العنف السياسي وتجذب المزيد من القراء والمشاهدين من خلال ذلك! عالم الإعلام في تركيا له دورة مالية ضخمة، والوسائل الإعلامية أحياناً تشارك في العنف السياسي والاجتماعي للوصول إلى المنافع المالية.
إن استمرار دورة العنف في المشهد السياسي التركي ليس مجرد حوادث عابرة، بل ظاهرة مركبة تغذيها عوامل متعددة: خطاب سياسي متشنج، مؤسسات قضائية وأمنية مسيّسة، وإعلام يستثمر في تأجيج النزاعات. مع انتقال الصراع من أروقة السلطة إلى الشارع، وفي ظل الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، تقف تركيا على مفترق طرق خطير قد يؤدي إلى تداعيات أكثر حدة على الاستقرار الداخلي والسلم المجتمعي، ما يستدعي مراجعة جذرية لثقافة التعامل السياسي في البلاد.
