تم الحفظ في الذاكرة المؤقتة...
رغم أنها كانت عملاق الصناعة
تحديات استراتيجية تواجه الإقتصاد الألماني
في الوقت الذي أقدمت فيه مؤخراً السلطات الألمانية بإعداد قائمة بالملاجئ مع استفزازها لروسيا من خلال تسليح أوكرانيا، يكمن الذعر الحقيقي في البلاد في الاقتصاد، خاصة مع استمرار عمالقة الصناعة الألمانية في تسريح عشرات الآلاف من العمال. ومع ذلك، وعلى الرغم من الكارثة الاقتصادية، لا تزال برلين لا تفكر في رفع العقوبات عن روسيا، وهو السبب الرئيس وراء ارتفاع أسعار الطاقة في ألمانيا.
إغلاقات وتسريحات بالجملة
في نهاية أكتوبر، أعلنت شركة فولكسفاغن أنها ستغلق ما لا يقل عن ثلاثة مصانع في ألمانيا وتقلل عدد الموظفين في المصانع المتبقية. وفي المجمل، سيفقد عشرات الآلاف وظائفهم في فولكسفاغن وحدها، مع تخفيض أجور من سيبقون منهم.
وستقوم شركة تيسن كروب العملاقة للصلب في السنوات المقبلة بتسريح ما يصل إلى 11 ألف شخص، أي ما يعادل 40% من القوى العاملة، وفقاً لصحيفة فاينانشال تايمز. وسيكون هناك 30 ألف حالة تسريح في دويتشه بان (السكك الحديدية الألمانية)، و14 ألفاً في شركة ZF Friedrichshafen المصنعة لقطع غيار السيارات، و14 ألفاً في كونتيننتال للإطارات، و13 ألفاً في SAP، وآلاف آخرون في بوش وأودي وغيرها.
ومن المتوقع أن تختفي حوالي 140 ألف وظيفة في صناعة السيارات الألمانية وحدها في السنوات العشر القادمة. وتفيد التقارير التلفزيونية الحكومية بأن صناعة الصلب ستكون أصغر حجماً، وعلى الرغم من كونها أكثر مراعاة للبيئة، إلا أنها ستكون أكثر تكلفة بشكل ملحوظ بحلول عام 2030.
لكن المسألة لا تتعلق فقط بالسنوات المقبلة بل باليوم أيضاً. فحتى موعد الانتخابات البرلمانية الاستثنائية، المقررة في 23 فبراير، من المتوقع أن يفقد آلاف العمال وظائفهم كل شهر - ما لا يقل عن 15 ألفاً حتى الانتخابات - وما يصل إلى 80 ألفاً خلال العام المقبل.
وهناك توقع آخر محبط من رئيس جمعية صناعة المعادن، شتيفان فولف، وهو أن 300 ألف عامل سيفقدون وظائفهم في صناعة المعادن بحلول عام 2030.
تداعي النموذج الألماني
وفي ظل هذا السياق، ليس من المستغرب أن تجد مجلة الإيكونومست أسباباً وجيهة للقول إن "ألمانيا التي كانت مهيمنة يوماً ما أصبحت الآن يائسة" وأن "نموذجها التجاري يتداعى."
وأضافت مجلة عائلة روتشيلد: "البلاد تجتاحها مخاوف من إزالة التصنيع وهي تتجه نحو انتخابات يبدو أنها ستطيح بالمستشار أولاف شولتز من منصبه إذا لم يتخل حزبه عنه أولاً."
وتحذر المجلة، من خلال الرسوم البيانية، من أن الإنتاج الصناعي في ألمانيا قد وصل تقريباً إلى مستوى قياسي منخفض سيئ السمعة في أعقاب جائحة كوفيد-19.
وعلق مسؤول في الاتحاد الأوروبي بنبرة واضحة من الخبث: "لسنوات كان لديهم هذا الاعتقاد بأنهم 'الأفضل'، وفجأة انتهى الأمر."
ومن أهم أسباب هذا التراجع ارتفاع أسعار الطاقة بسبب قطع العلاقات مع روسيا. إن صرخة الرئيس التنفيذي لشركة تيسن كروب بأن ألمانيا في خضم إزالة التصنيع تذكرنا بما حدث عندما أرسلت الجمعية الأوروبية للمعادن غير الحديدية قبل عامين نداءً عاجلاً إلى رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، لمنع إزالة التصنيع الدائمة بسبب ارتفاع أسعار الكهرباء والغاز، مع ملاحظة مهمة مفادها أن ما يُغلق يميل إلى البقاء مغلقاً بشكل دائم.
ومن بين المشكلات الألمانية الإضافية النموذجية، تشير الإيكونومست الآن إلى نقص العمالة المدربة لأن ألمانيا تشيخ. وتتحدث تقديرات أخرى عن الحاجة إلى تدفق حوالي 300 ألف مهاجر سنوياً، بالإضافة إلى البيروقراطية المعقدة، معظمها من بروكسل والاقتصاد الألماني، والتي تكلف، وفقاً لتقييم معهد إيفو في ميونيخ، 146 مليار يورو سنوياً.
وهناك، بالطبع، اللغز الذي لا يمكن حله المتمثل في المنافسة من الصين، التي كانت على سبيل المثال مستورداً للسيارات في عام 2020، بينما أصبحت العام الماضي أكبر مصدر في العالم ليس فقط للسيارات ولكن أيضاً للآلات والصناعة الكيميائية.
وكشفت الفاينانشال تايمز عن مدى انقلاب النظام العالمي الصناعي المبتكر مقارنة بما كان سائداً. فالآن، يطالب الاتحاد الأوروبي بنقل التكنولوجيا من الشركات الصينية التي ترغب في العمل على أراضيه.
وفي أي حال، توصي الإيكونومست بشدة بأن تتغلب ألمانيا على مشاكلها الصناعية وتلغي الحظر الدستوري على الاقتراض الكبير، مما يعني وقف الإنتاج وبدء الاقتراض. ويُقدر أن ألمانيا تحتاج إلى استثمارات عامة بقيمة 600 مليار يورو في السنوات العشر القادمة، وهي غير متوفرة.
لهذا السبب، حققت ألمانيا هذا العام هدف الناتو المتمثل في 2% من الناتج المحلي الإجمالي للجيش. وقال الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتس، المستشار المستقبلي المحتمل، للألمان حتى قبل بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في فبراير 2022 "ألا يخافوا من الحرب النووية" لوقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
خيارات خاطئة
وبالطبع، فإن إزالة التصنيع السريعة هذه في ألمانيا قد أُشعلت بسبب الآثار المرتدة للعقوبات المناهضة لروسيا، والتي بدلاً من أن تؤدي إلى انهيار الاقتصاد الروسي وإنهاء العملية العسكرية الخاصة، أدت إلى توقف الصناعة الألمانية مع ارتفاع أسعار الطاقة وتعميق أزمة تكلفة المعيشة. ومع ذلك، هذا واقع ترفض برلين الاعتراف به، حتى على حساب صناعاتها الرئيسية.
إن المشهد الاقتصادي الألماني اليوم يمثل نقطة تحول تاريخية تتطلب إعادة تقييم شاملة للنموذج الاقتصادي الألماني وخياراته الاستراتيجية. فالتحديات التي تواجهها ألمانيا اليوم - من ارتفاع تكاليف الطاقة إلى المنافسة الصينية المتزايدة وشيخوخة السكان - تتطلب حلولاً جذرية تتجاوز المسكنات المؤقتة. والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم: هل ستتمكن ألمانيا من إعادة اختراع نفسها والحفاظ على مكانتها الصناعية، أم أن ما نشهده اليوم هو بداية نهاية حقبة الهيمنة الصناعية الألمانية؟ الإجابة على هذا السؤال ستحدد ليس فقط مستقبل ألمانيا، بل ومستقبل الاقتصاد الأوروبي بأكمله.