خبيرة اجتماعية لبنانية للوفاق:
من الثقافة إلى المجتمع .. التكنولوجيا تتحكّم بحياتنا وتهدّد أمننا
تسود في مجتمعاتنا العربية ثقافة الاستهلاك المفرط للتكنولوجيا التي أصبحت تحدد هويتنا الثقافية والاجتماعية مما يشكل خطورة على المجتمع اجتماعياً وثقافياً وأمنياً ولكن هل نستطيع في هذا العصر الرقمي والتدفق المعلوماتي الاستغناء عن التكنولوجيا مما يجعلنا خارج العالم كما يطرح البعض وهل الأجدى الغياب عن هذه الساحة أو المواجهة بالسلاح نفسه وهل لدينا القدرة العلمية والتكنولوجية لذلك، وكيف نستطيع إقناع الشباب والجيل الجديد بخطورة التكنولوجيا وخاصةً عندما أصبحت وكالات الاستخبارات تعتمد على الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي بحثاً عن جواسيس وعملاء في الخارج، وبالأخص بعد الهجمة التكنولوجية الصهيونية التي شهدها المجتمع اللبناني من استهداف المقاومة وقادتها وعناصرها فهل ستتغير ثقافة المجتمع اللبناني والعربي حول استخدامها أم سيظل مجتمعنا مكشوفاً إعلامياً وأمنياً أمام العدو. للإجابة على هذه الأسئلة حاورت صحيفة الوفاق الدكتورة اللبنانية سحر مصطفى مسؤولة الدراسات في مركز أمان للإرشاد السلوكي والإجتماعي وفيما يلي نصه:
عبير شمص
التكنولوجيا لها وجهان مفيد وقاتل
تعتقد الدكتورة مصطفى أن التقنية هي مجرد أداة، يمكن أن تكون في خدمة البشرية وممكن أن تكون أداة قاتلة ومدمرة. الأمر نفسه يمكن تطبيقه على تقنيات الاتصال والتواصل. ووفق غالبية الدراسات، فإن فئة الشباب بغالبيتها تستخدم هذه التقنيات للترفيه والألعاب، ولكن هذا لا ينفي وجود العديد من المبادرات وإنشاء فرص عمل وتنشيط ثقافي واجتماعي عبر هذه التقنيات.
وتعتبر أن المجتمعات العربية مثل العديد من مجتمعات دول ما يسمى العالم الثالث، تغرق في الثقافة الاستهلاكية، ويجري التعاطي مع وسائل الاتصال والتواصل، كمقتنيات للتفاخر، وليس كتقنية علمية، تهدف إلى تسهيل حياة الناس وتطوير أعمالهم، وفي الحقول الطبية والتعليمية وغيرها.
ترشيد استهلاك التكنولوجيا
تؤكد الدكتورة مصطفى أن المطروح ليس الاستغناء الكلي، بل الترشيد، الطعام حاجة أساسية لاستمرار الحياة، ولكن يمكن أن يتحول إلى قاتل إذا لم نعرف ماذا ومتى وكيف نأكل، فكيف بموضوع تقنيات الاتصال والتواصل. المطلوب هو التعرف على هذه التقنيات بشكلٍ علمي ومعرفة سلبياتها وكيفية التخفيف من هذه السلبيات. كما توجد شهادات خاصة بالسوق واستخدام بعض التقنيات، وحدود عمرية يمنع لمن هم دونها استخدامها، يجب تطبيق هذه الحدود بشكلٍ أكثر تشدداً فيما يخص تقنيات الاتصال والتواصل.
وفيما يتعلق بإنتاج التكنولوجيا الخاصة بنا، ترى الدكتورة مصطفى أنه عندما نريد أن نواجه في نفس الساحة والسلاح يجب أن نمتلك مفاتيحه، ونحن لا نمتلك أي من هذه المفاتيح. بعض الدول بدأت محاولات جادة ويبنى عليها لبناء شبكاتها الخاصة، ولكن الأعم الأغلب من الدول هي مستهلكة لهذه التقنيات. لذا يجب أن نكون شديدي الحذر في التعامل معها. أن لا ننجر إلى ثقافة العالم الافتراضي من انتهاك الخصوصيات، والثرثرة والتباهي، وتضييع الوقت والوقوع فريسة الإشاعات، والإدمان الالكتروني والانجرار إلى الرذائل وغيرها الكثير من لائحة طويلة من السلبيات.
وتشير إلى أن من يريد أن يتصدى عبر وسائل التواصل ومنصاتها المختلفة، يجب أن يجري إعدادهم بشكل جيد، حتى يكونوا ثابتين بمواجهة إغراءات هذا العالم، ومساندتهم بإعداد محتوى ذي قيمة ويتناسب مع طبيعة هذه الوسائل. هناك تجارب رائدة في هذا المجال، وتحتاج إلى مزيد من العمل، ولكن نعرف ألعاب الخوارزميات، وإغلاق الصفحات، وغيرها مما تقوم به إدارات مواقع التواصل للحد من وصول الصفحات الهادفة والرصينة. بكل الأحوال يجب أن نعيد التفكير بطريقة خارج صندوق العالم الافتراضي، لمواجهة ثقافة الاستهلاك واستلاب الإرادة والغرق في الشائعات.
خطر ثقافي ومجتمعي
تلفت الدكتورة مصطفى إلى وجود آلاف الشواهد والأدلة العملية التي تبين خطورة هذه الوسائل، ويحتاج الأمر إلى جهد أكبر لتبيين هذه المخاطر للجيل الشاب وتقديم بدائل، لانخراط هؤلاء بشكل عملي في العمل الاجتماعي، وتعبئة أوقات الفراغ، وهناك الكثير من التجارب الواعدة في هذا المجال، والجدير ذكره أن المجتمعات الغربية أيضاً بدأت تضج من الآثار السلبية لهذه الوسائل وبشكل خاص على المستوى الصحي والنفسي والتعليمي للشباب، ويمكن بشكل موازٍ تثقيفهم على كيفية تحويل هذا التهديد إلى فرصة.
هيمنة ثقافية
تلفت الدكتورة مصطفى بأنه قد جرى ربط المكانة الاجتماعية للأفراد باستخدام هذه التقنيات. وذلك عبر ضخ إعلامي قوي وتصوير أن من لا يستخدم هذه التقنيات هو متخلف، وحتى وصل الأمر إلى الحصول على هذه المكانة عبر عدد المتابعين والمعجبين بغض النظر عن المحتوى، ومؤهلات هؤلاء الأشخاص، لقد أصبحت التكنولوجيا شريكة لا يستهان بها في عملية التنشئة الاجتماعية، ولكن هذا لا يعني أنها الفاعل الوحيد في هذا المجال، فلا زالت المؤسسات الاجتماعية الأخرى فاعلة ويمكنها العمل والتوجيه ولكن أصبح لديها تحديات أكبر في عملية التنشئة. كل ما كانت لدينا ثقافة صحيحة في التعامل مع هذه التقنيات كلما قلصنا تأثيراتها السلبية، وكل ما تعاطينا معها باستلاب أو جهل ستكون الآثار السلبية أعلى بكثير.
التكنولوجيا خطر أمني
تؤكد الدكتورة مصطفى بأن التقنية أداة، ولكن مما لا شك فيه أن التحكم بها من قبل الشركات الكبرى، واستخدام معلومات الناس من قبل هذه الشركات بطريقة غير صحيحة وفي خدمة مشاريع الهيمنة، يطرح الكثير من علامات الاستفهام، كيف يجري السماح باستخدام بيانات المستخدمين والتي من المفروض أنها مشفرة، سواء لأهداف تجارية أو سياسية
أو هيمنة ثقافية.
وتوضح الدكتورة مصطفى بوجود جهل كبير حول الخطورة الأمنية لهذه الوسائل على الرغم من عقد بعض الدورات التثقيفية حول هذا الخطر وبعض من يتصدى للتوعية إلا أنها لا زالت ضعيفة، والناس في معظمها لا تصدق القدرات الهائلة لاختراق البيانات والكاميرات وغيرها وخطورة ما يتم جمعه من بيانات على حياة الناس وأمنهم واقتصادهم وغيرها الكثير من المخاطر، ولذلك نحتاج إضافةً إلى التوعية العمل على إنشاء شبكاتنا الخاصة، وخوادمنا وأهم ما نحتاج إليه هو تعزيز ثقافة الكتمان والحذر من هذه الوسائل وكل ما يبث من خلالها لأن لا ثقة بأي حماية يمكن أن نقوم بها بشكلٍ تقني لأنها يمكن أن تكون قابلة للاختراق.
كما تؤكد بأن السبيل الأساسي للمواجهة هو التعاطي بحذر وذكاء مع هذه الوسائل وأهمها الكتمان، تقليل التواصل إلى الحد الأدنى، عدم التداول بأي معلومات مهما بدت بسيطة وهناك لائحة طويل من الإرشادات التي يمكن الاطلاع عليها عبر نشرات التوعية، وعلينا أن نبني ثقافة مواجهة لثقافة شيوع وتبادل المعلومات والتحركات وكل تفاصيل الحياة، فالمطلوب الحذر والانتباه وترشيد الاستخدام، وفهم مخاطر هذه الوسائل هو خطوة مهمة، وكذلك الاقتناع بأنه لدينا العديد من البدائل، وسائل التواصل ليست قدراً مبرماً، الأساس في التعامل مع أي تقنية يكمن في عملية التحكم والإدارة والإرادة.
التغيير واجب
تعتبر الدكتورة مصطفى بأنه هناك بعض قطاعات العمل الحساسة، التي يجب التعامل معها بحذر عالٍ في الاستفادة من تقنيات الاتصال، قد يصل إلى الاستغناء وفق الضرورة العملية، ونشر ثقافة الحذر بل ثقافة الاستغناء تحتاج للكثير من العمل وخاصةً مع الضربات الامنية التي عانى منها مجتمعنا، ولكن للأسف المجتمعات لا تستفيد بشكل تلقائي من التجارب وتحتاج إلى من يرشدها، ويساعدها على استنتاج العبر وتثبيت الدروس المستفادة. ويجب أن يكون هناك سلطة تحاسب على الأخطاء، وعمل ثقافي وإعلامي وكذلك دعم نفسي اجتماعي، لبناء وعي مجتمعي وبناء نمط حياة بالاستفادة من الدروس والعبر، فالعمل على التغيير في هذا المجال، يحتاج إلى نفس طويل وصبر واستخدام أساليب مبتكرة، وجهود متضافرة من أكثر من جهة، ووضع قوانين رادعة للمخالفة، نحتاج إلى تكثيف الجهود وتضافرها، والصبر للحصول على النتائج، وعدم اليأس والاستفادة من التجارب ومراكمتها، ومن المهم أيضاً تفعيل القوانين التي تنظم عمل الإعلام، واستخدام وسائل التواصل وحماية بيانات المواطنين.
والأهم وفق الدكتورة مصطفى هو تعزيز الثقافة الإيمانية وقيم الإسلام المحمدي الأصيل التي تحث على الكتمان ومواجهات الشائعات، وحسن الظن بالمؤمنين وسوء الظن بمروجي الشائعات والصدق والابتعاد عن الغيبة والنميمة واللغو في الحديث والحذر من العدو والصبر والقناعة والتعفف، إنها منظومة قيم متكاملة تؤسس لثقافة إنتاج ونمط حياة سليم يراعي الحقوق ويحث على تحمل المسؤولية والقيام بالتكليف.