الصفحات
  • الصفحه الاولي
  • محلیات
  • اقتصاد
  • ثقاقه
  • دولیات
  • مقالات و المقابلات
  • طوفان الأقصى
  • منوعات
العدد سبعة آلاف وستمائة وثلاثة وثلاثون - ٠٩ نوفمبر ٢٠٢٤
صحیفة ایران الدولیة الوفاق - العدد سبعة آلاف وستمائة وثلاثة وثلاثون - ٠٩ نوفمبر ٢٠٢٤ - الصفحة ٤

”النّفق”

منعم السعیدي

نظر إلى يديه مجدداً، تلمس معصميه، فك رباط يده اليمنى ليتفقدها، لازالت آثار الأغلال محفورة في معصميه،  "مثل قطيع من الغنم نقلونا من غزة إلى مصر، مكبلين وأعيننا مغمضة بعصبة سوداء، تلك الحارات الضيقة، نعم، أنا أشم رائحتها الرطبة في هذه اللحظة، هناك يسكن سعيد، كنت أبحث عنه بلهفة شديدة، وجه ذلك الرجل العجوز لازال ينبئني بشيء ما أخشى حدوثه، لكنه دلني إلى بيت سعيد وخلف ذاك الباب الخشبي المتصدع أشرقت ضحكة سعيد عندما رآني، لكن الفرح في حياتي لا يكتمل لسبب لازلت أجهله ولشدة الحرارة في مصر أصبتُ بالحمى سريعا"
 هذه البرودة ذكرته بتلك اللحظات بعد دخوله منزل سعيد، فقد انهار جسده وأصابته الحمى الشديدة، ليس فقط من حرارة الجو المرتفعة، بل من عناء السفر القسري .
"سعيد كان يغلي لي نوعاً من الأعشاب في كل يوم لأهدأ وأشفى، لا بد ان هذه العشبة جعلتني أنسى الكثير" .
صار يتهم كل شيء حوله بأنه ساهم في معاناته لأنه لازال تائهاً غريباً يشعر بالضياع بين الصحراء والبحر ومصر كانت رحلة من العذاب القسري دون أمل حقيقي بتحرير طفلته من أيدي الوحوش .
وقف على قدميه المرتخيتين تعبا ثم أخذ السير نحو شعاع النور راجياً أن يوقظ هذا النور ما تبقى من ذاكرته، صارت قطرات الماء تبتعد أكثر وصوتها يضعف كلما ابتعد، وقف واتكأ بظهره إلى الجدار، صوت سعيد عاد إلى ذاكرته "مروان ساعد أحمد في المرور .."   
_"لكن أين اختفى مروان، كان يسبقنا بعدد من الأمتار، لكنه اكثر خبرة بالوصول إلي لو استطاع ذلك، لكنه حتما لم يستطع،ربما يظنان الآن أنني ميت تحت ذلك الركام، قد يعودا للبحث عني قريباً، نعم سأنتظرهم"
شعر بالقلق الشديد، حدث نفسه مترددا  "لا لن أنتظرهم، فقد يفاجئني شيء ما داخل هذا المكان، علي أن أخرج من هنا بأسرع وقت ممكن" .
سار بخطى أسرع حتى دون ان ينظر أمامه ودون ان يركز نظره في النور البعيد، سار طالباً الحياة خارج هذا المكان الغريب، ومضات الكرى لم تفتأ الوميض داخل رأسه ، تذكر أن سعيد خطط لكل شيء... لعبور  النفق... للوصول إلى غزة ..
أدرك في هذه اللحظة أنّ سعيد قد عبر النفق من هنا حيث تبدو نهاية النفق واضحة، فاستجمع قواه لينهض مجددا ويسير نحو الضوء ولكنه أخذ يلهث فالذكريات الأليمة ضغطت على صدره وآلمت قلبه شعر وكأنه على وشك الاختناق، فتوقف عن المشي ونزع الرباط المحيط بخصره ليترك مجالاً أكثر لأنفاسه لتدخل الى جسده، جسده المتعب كله، وضع يده على جرح خاصرته متفقداً إياه ليجد الدماء قد تجمدت والنزيف قد توقف، أشعره ذلك بالقوة، وأثبت له أن جسده يستجيب الآن لما تحتاجه هذه المهمة من قوة، سار بخطى واثقة اكثر فهو يعرف الآن هدفه بوضوح أكثر، لكنه كلما اقترب من النور كان يشعر ان المسافة لا تنتهِ، فأخذ يسير بسرعة أكبر وذاكرته تحمل مزيداً من الأصوات ليستعيد وعيه كاملاً أثناء مشواره نحو النور، اقترب من الجدار وأخذ يتكئ عليه أثناء سيره كي لا تتحمل قدميه كل وزنه، علّه بذلك يستمر بالمشي دون أن يستنزف قواه، وكلما مشى عدداً من الخطوات كان ينظر للخلف ليرى الظلام خلفه فيشعر بالقوة التي استجمعها في داخله بسبب تلك العتمة وليخرج منها للنور، هكذا كان يستمد القوة لنجاته إلى أن اقترب من مكان النور الذي بدأت تتوضح ملامحه بالنسبة له، إنها فتحة دائرية تعادل بحجمها حجم نافذة كبيرة، صارت خطاه تتسارع دون ان يدرك، وفي رأسه اجتمعت وجوه الجميع واصواتهم .
عندما وصل إليها، وضع يديه على حافتها ونظر نحو الخارج وهو لا يصدق أنّ أصوات الصباح الأولى تنتظره خارج هذا المكان،  في الخارج حركة خفيفة على شارع يبعد مسافة قليلة، أخرج رأسه ليرى المزيد من معالم الحياة التي افتقدها ظانا أنه سيفقدها، كانت أرض ترابية تمتد دون نهاية، يقسمها ذلك الشارع الذي قدر بعده عنه بحوالي مئة متر أو أكثر بقليل، قفز نحو الخارج وقف متلفتا حوله للحظات بأنفاس متقطعة ثم متهالكا استلقى على الأرض ليرتاح من عناء دربه وذعر الهواجس، نظر إلى الأعلى متأملا زرقة السماء الممتدة فوقه، شعر بأنه يراها للمرة الأولى، ابتسم وشكر الله لأنه عاد للحياة من موت مؤكد، جلس وهو لا يزال يلهث بشعور مختلط باد على ملامحه، نظر إلى نفسه تفقد جسده، و رأى ثيابه، وقد صار لونها مائلاً إلى البني الغامق، تبسم متهكما وهو يتذكر كم كان قميصه أزرقاً بلون تلك السماء، نزع رباط يده ورماه ونظر إلى جرح يديه وقد تجمدت الدماء فيه، أخذ ينفض التراب عن ثيابه التي تمزقت في كثير من الأماكن، وفكر كيف سيمشي في هذا المكان بهذه الهيئة الغريبة، فحتى قميصه الداخلي الممزق من ناحية خاصرته اليمنى لا يستر جسده جيداً، كان يخشى أن يلتقي بأحد الغرباء فيثير تساؤلاته و بماذا سوف يُجيب لو سأله.
نظر حوله سار بضع خطوات إلى الأمام ليبتعد عن تلك الفتحة أكثر، ولكن المكان فارغ تماماً إلا من بضعة سيارات تقطع ذلك الطريق الطويل من حين إلى آخر، فكان خياره الوحيد هو الاقتراب من ذلك الطريق ليجد من يُقله، لكن إلى أين؟، فهو ليس متأكداً تماماً من مكانه الآن، هل هو في رفح أم أنهم ابتعدوا عنها، فهو لا يعلم بعد إلى أين يصل ذلك الطريق.

البحث
الأرشيف التاريخي