أستاذة في اللغة العربية للوفاق:
أدب المقاومة الطريق المضيء نحو توحيد الإنسانية
وُلِدت المقاومة مع الإنسان، وظلت ملازمة له منذ نشأة الخليقة، لأنه مخلوق مقاوم بطبعه وفطرته لكل ما يحسبه عنصراً يعمل ضده، إن كان هذا العنصر ينتمي إلى محيطه، وبيئته، أو كان من المجموعات الإنسانية أو الطبيعية الأخرى. وبما أنّ اللغة كانت ولا يزال تشكّل إحدى أدوات التواصل والمواجهة؛ فإنّ الانسان استخدمها كعنصراً مؤثّراً في الدفاع عن النفس. ونجد في التاريخ شواهد عدة لتأثيرها، وقد تحولت فيما بعد إلى أدب وشعر وخطابة وغيرها. لذا من الممكن القول إنّ أدب المقاومة هو التعبير من خلال اللغة التي استحالت نصّاً ومنصةً للدفاع عن الإنسان في معركته مع الآخر المعتدي، مع تعدّد هذا الآخر وتنوّعه وتلوّن صفاته. لذلك لا يخرج الموضوع عن هذا المسار التاريخي التكويني. وفي هذا الصدد اجرت صحيفة الوفاق حواراً مع الدكتورة والأستاذة اللبنانية الجامعية في اللغة العربية زينب صالح الطحان فيما يلي نصه:
الوفاق / خاص
سهامه مجلسي
ما هي رؤيتك لتعريف أدب المقاومة؟
لمّا يتوصّل النقّاد بعد إلى تعريفات محددة لأدب المقاومة، وهو على شاكلة الأدب الملتزم؛ أدب صلب اهتمامه ينصبّ بمقاومة الشعوب للإحتلال والإستعمار ومشاريع الهيمنة على استقلالها ومنع تطورها. وهو يهتم بشكل أساسي بقضايا المجتمعات المظلومة والمستضعفة.
لذلك لا أرى داعياً لتأخير تحديد نوع هذا الأدب؛ إذ يمكن القول إنه أدب الكلمة الحقة في وجه الظلم، وكل أدب يخلو من قضية أو رؤية فلسفية فهو أدب عبثي. والمتكلم في النص- كما يقول الناقد الروسي ميخائيل باختين- هو دائماً وبدرجات مختلفة منتِج للأيديولوجيا، وكلماته هي دائماً عينات أيديولوجية.
ما يعني أن رؤيته تشكّل قطب الرحى في أي عمل أدبي. لذلك من الصعب أن نجد عملاً فكرياً أو أدبياً يفتقد إلى المضمون الفكري الأيديولوجي، نازعاً عن الأدب أن يكون لعبة جمالية خالصة. ويعدوا أدب المقاومة هو الطريق المضيء نحو توحيد الإنسانية في مواجهة الظلم
والعدوان.
ما هو وصفك لقوة القلم والكلمة وتأثيرهما بالمقاومة والنضال في حياة المجتمعات والشعوب؟
كل عمل أدبيّ لا يقل قيمةً ولا أهميةً ولا شجاعة عن عمل مقاوم يسهر في الليالي الباردة، ليزرعَ عبوة تحيل المحتل أشلاءً. لأننا إذا لم نؤرخ لهذا التاريخ المجيد، نضع رقابَنا ومستقبلَ أوطاننا وأبنائنا تحت مقصلة من يريد أن تحيا الأمةُ من دون تاريخ، لتبقى الحجةُ والشعارُ أنّ العين لا تستطيع أن تقاوم مخرز الصهاينة ومجتمع الدول الظالمة، وغيره.
كيف ترين حضور أدب المقاومة في النتاجات الأدبية المحلية في لبنان وفلسطين؟
انتقل النتاج الأدبي المقاوم الى مرحلة جديدة مع خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، وانطلاق مرحلة المقاومة اللبنانية ضد الإحتلال الصهيوني، وبزوغ أسماء جديدة ولامعة في هذا المضمار. ترافق ذلك مع انتقال الغلبة في نوع النص، من الشعر، إلى السرد الذي أسس له الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، مع توجّه واضح نحو النوع الأخير، تماشياً مع التبدّل الحاصل في المزاج الكتابي في العقود الأخيرة نحو السرد والرواية، مع ما يتيحه السرد من حرية ملحوظة، تسمح للكاتب أن يطلّ على مسرح الأحداث برؤية شاملة لسرد الوقائع أو التخيّلية لموضوعة المقاومة.
اليوم، في اللحظة الراهنة، يخطو الأدب المقاوم باتجاه الإبداع، بعدما كان يشوبه الكثير من اللغة المباشرة والتوصيف التوثيقي بعيداً عن الجمالية الفنية. فقد كان التقديس للشخصية المقاومة يفوق الواقع ويقترب من الأسطورة التي تخلت عنها الآداب العالمية كلها. فقد بقى الأدب المقاوم، في لبنان تحديداً، في حدوده البيئية الاجتماعية والثقافية الخاصة جداً، في بقع جغرافية محدودة من لبنان. لكن بدأنا نشهد أن هذه الأعمال قد بدأت تتميّز بالقفز فوق تقديس الشخصية المقاومة في النص وإحاطتها بهالة أسطورية، كما قال أدونيس عن النصوص التي كُتبت في مراحل سابقة، بأنها كانت مُشبعة بروح المبالغة، وانتقلت بها نحو الواقعية، حيث نُزعتْ عن الشخصية صفة الأسطورة والغلو، وتحولت معها الى إنسان عادي يحبُّ ويكره، ويخطئ ويصيب، وينجح ويخفق، ويخاف ويُقْدِمُ، ويحزن ويفرح.
في هذا السياق؛ للأدب الفلسطيني المقاوم السبق الإبداعي منذ زمن طويل؛ والذي افتتحه الشهيد الروائي غسان كنفاني، واستمر مع الأجيال اللاحقة؛ وما يزال أمام النتاج الأدبي المقاوم في لبنان شوطاً طويلاً حتى يصل إلى مستوى نظيره الفلسطيني؛ وهذه كلمة حق تقال. فقد طغت على النتاج الأدبي اللبناني النزعة اليسارية- الاشتراكية الواقعية، والتي طغت فيها روح الانكسار والهزيمة التي مُني بها العرب طوال عقود من بداية الصراع ضد العدو الصهيوني؛ وما تزال هذه الروح – مع الأسف- الطاغية في هذا النتاج الأدبي وحتى العربي.
أذكر أنّي تساءلت مع الشاعر العربي الكبير محمد علي شمس الدين السؤال الآتي: لماذا يسيل الحبر أنهاراً، في أيام الهزيمة، والنكسات والنكبات؟ وتبدأ حفلات جلدِ الذات والعويلِ والنحيب؟ وفي أيام الانتصارات - وهي نادرة في تاريخنا المعاصر- تعود الأقلام إلى أغمادها؟ لماذا لم يكتب محمود درويش الشاعر الفلسطيني الكبير قبل رحيله عن المقاومة التي كانت تحقق الانتصارات في غزة وفي لبنان؟ لماذا تسكت أقلام المبدعين الروائيين العرب عن تمجيد الانتصارات العربية الأولى في لبنان؛ مثلما يرسخون في وجدان الأجيال روح الهزائم العربية السابقة؟ هل لأننا تعودنا على الانكسارات والخيبات؟ أم أننا ما زلنا غيرَ مؤهلين لانتصارات بهذا الحجم؟ انتصاراتٌ راقيةٌ، نظيفةٌ، تشعُّ إنسانيةً ورحمة وعفواً.
لعلّ السبب قد يكون بأن الشعوب العربية والنخب والمثقفين والعاملين بالشأن الثقافي والسياسي، لمّا نستطع بعد أن نهضم حدثاً بحجم الأيدي التي امتدت من زنازين معتقل الخيام، لملاقاة الرجال الذين حرّروا، ليس المعتقل وحسب؛ بل حرروا العقل العربي والوطن والأمة من مفاهيم الهزيمة والضعف والإستسلام، والتي ظلت راسخة في عقول الروائيين والشعراء العرب..
ما تقدمه أعمال الأدب المقاوم اللبناني، على تواضعها، يأتي في سياق حفظ هذه الإنجازات والانتصارات من غبار الزمن، ومن الحبر الملوّث الذي قد يستوطن أوراق الزيف والخداع والتهوين، فيصبح السيد عباس الموسوي والسيد هادي نصرالله وسناء محيدلي ولولا وعلي عبود وخالد علوان وآلاف الشهداء، قطّاعَ طرقٍ ومقامرين؛ مثلما وعي جيلنا على تاريخ يصوّر لنا الثائر العاملي أدهم خنجر أنه من قطّاع الطرق..
في مجال الكتابة هل تخلّفت القصة والرواية والشعر عن المقاومة؟
لا؛ القصة والشعر والرواية، في مجال الأدب المقاوم، لم تتراجع ابداً؛ بل نشهد زخماً كبيراً في تبنّي أيدولوجية المقاوم فعلاً وثقافة. وهي أعمال تتقدّم بوتيرة أعلى في العقد الأخير، خصوصاً بعد تبلور الأفق العام لثقافة المقاومة في عدد لا يستهان به في البلدان العربية، بالأخص الدول التي يتكوّن منها محور أو جبهة المقاومة العسكرية ضد العدوّ الصهيوني. ولكن يمكن الحديث عن الأدب المسرحي، والذي ما يزال خجولاً ووليداً لم يحظ بعد بكتّاب مبدعين مثلما هو الحال في القصة والرواية والشعر، مع لحاظ تواضع هذا الإبداع، والذي – كما قلنا أعلاه- هو يسير باتجاهٍ
أكثر تطوراً.
كيف نفسر أدب المقاومة الفلسطيني بقوّته واستمراريّته وعدم تأثره بالمستجدات السياسية؟
إن كان المقصود بالمستجدّات السياسية هو الحرب الإعلامية والحراك السياسي ضد وجود المقاومة في فلسطين، وحتى لبنان، فالأمر القاطع فيه أنه لا تأثير حتماً.. فإذا كان النتاج الأدبي المقاوم سيتأثر بهذا الحراك المعادي ما كنّا نقرأ أي أدب مقاوم، لا في فلسطين ولا في لبنان. لذلك؛ هو مسار أدبي مستمر ما دامت المقاومة العسكرية مستمرة وما دام الاحتلال والاستعمار جاثماً على بلادنا.. إنّما سنشهد ديمومة لهذا الأدب، حتى لو زال الاحتلال؛ لأنّ هناك مئات القصص والأحداث التي تتطلّب أجيالاً من الأدباء والكتّاب كي يرووها.
كيف يمكن دعم الأدب المقاوم لنشر ثقافة المقاومة؟
في الحقيقة؛ هذا أمر مهمّ للغاية. نلاحظ كيف تجهد الشعوب الأخرى لنشر ثقافتها وأدبها في المحافل العالمية، وتعرّف بقية الشعوب تاريخها ومجدها؛ بينما نحن يعوزنا الكثير لنقوم بهذا الجهد. وهو جهد كبير.
أولاً - يجب توقيف دور النشر عن «سرقة» الكاتب والأديب؛ ففي عالمنا العربي الكاتب من يدفع لدار النشر كي تنشر له نتاجه الأدبي، ويحصل على نسب ضئيل من نسبة المبيع، في حين تجد في دول العالم، والغربي خصوصاً، هي من تدفع للكاتب وتروّج له نتاجه في مختلف وسائل الإعلام وبشتى الأساليب.
ثانياً - ليس هناك من اهتمام وزاري رسمي لدينا بالنتاج الأدبي ورفع مقامه في الثقافة المجتمعية عموماً؛ خصوصاً أننا نعاني حرباً ثقافية وإعلامية ضد ثقافة المقاومة، فكيف بالأدب؟!
ثالثاً - لا تكفي المهرجانات ومحافل المسابقات التي تجري في القصة والرواية للأدب المقاوم؛ فيجب أن تستتبع بحملة دائمة من الأنشطة في مختلف البلدان كي نتمكّن من نشر أدبنا المقاوم. وحتى هذه المهرجانات والمسابقات في الحقيقة؛ هي أيضاً ما تزال قاصرة عن أن تشمل البلدان العربية كلّها، فهي محصورة في بلدان جداً محدّدة؛ وهذا يثبط من عزيمة الأديب في نشر نتاجه، ولا يشجع على نشر النتاج الأدبي المقاوم.