الكيان الصهيوني على حافة الحرب الأهلية
محمد نادر العمري
كاتب ومحلل سياسي
سعت الحكومات الصهيونية المتعاقبة، وبصورة خاصة حكومة "بن غوريون" في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، إلى تبني سياسة "بوتقة الانصهار"، للحد من اتساع الانقسام البنيوي الذي كان سائدًا. وهو يتسم بسيادة الموقف داخل ما يطلق عليه المجتمع الصهيوني منذ تأسيس هذا الكيان في المنطقة بعد نكبة العام 1948م، نتيجة الصراع المتنامي الذي كان دائرًا بين طبقة "الأشكناز" التي كانت تضم اليهود الغربيين الذين شكّلوا ما يمكن وصفه بـ"العمود الفقري" لكيان الاحتلال، و"السفارديم" أي اليهود الشرقيين.
إلا أن الصراع الداخلي آخذ في التطور أكثر، منذ العقود الأخيرة، لترتفع بموجبه مؤشرات اندلاع حرب أهلية بين مكونات هذا الكيان، ولا سيما بعد وصول اليمين المتطرّف للحكم لأول مرة في تاريخ كيان الاحتلال، في نهاية العام 2022م، ودخوله في ائتلاف مع اليمين الليبرالي "حزب الليكود" برئاسة بنيامين نتنياهو. إذ إن عوامل اندلاع حرب أهلية باتت تهدّد الكيان الصهيوني لا يمكن إرجاع أسبابها فقط إلى الفشل الاستراتيجي في تحقيق أهداف حكومة نتنياهو من العدوان على قطاع غزّة بعد عملية طوفان الأقصى- وإن كانت هذه العملية قد زادت من تعرية التصدع الحاصل داخل هذا الكيان- بل هي تعود إلى عقود سابقة، وبصورة أكثر تحديدًا إلى تاريخ الانقلاب السياسي الذي عصف بالمشهد الصهيوني في العام 1977م، متمثلًا بوصول اليمين لأول مرة إلى الحكم مع حزب الليكود، ثمّ تداعيات الأزمة الاقتصادية التي شهدها الاقتصاد الصهيوني في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي حتى منتصفه، إلى جانب عدم القدرة على حسم الملفات الجدلية داخل هذا "المجتمع"، من موضوع إعفاء اتباع التيارات الدينية من الخدمة العسكرية، وإشكاليات اعتماد التوراة أو الدستور، كذلك حرمة السبت، وقضية المرأة، وغيرها الكثير من الجدليات التي أصبحت ضمن دائرة التجاذب لتحقيق مصالح سياسية وانتخابية، وضع الكيان الصهيوني- وفقًا لوصف المؤرخ الصهيوني بريكو بريسكو- على صفيح من الجمر تغطيه طبقة رقيقة من الرمل.
هذه المخاوف، برزت في الوثيقة التي نشرها معهد دراسات الأمن القومي الصهيوني التابع لجامعة "تل أبيب" في مطلع العام 2022م، عرفت بـ"وثيقة التقييم الاستراتيجي السنوية"، وقدمت إلى مراكز صنع القرار الصهيوني. وتضمنت التهديدات والانقسامات الداخلية وما يعيشه الكيان الصهيوني جراء التفكك الاجتماعي الآخذ بالاتساع إلى مستوى بات يستدعي دق ناقوس الخطر. وفي هذه الوثيقة وصف"غادي آيزنكوت" رئيس هيئة الأركان السابق التهديدات الداخلية بأنها الخطر المحدق بمشروع "الحلم الصهيوني"، مضيفًا: "الصهاينة قلقون ليس بسبب التهديد الإيراني، ولكن بسبب التفكك الذي تشهده الدولة من الداخل".
إذ أرجعت الوثيقة مظاهر التفكك حينها إلى أزمة الحكم والانقسام السياسي الذي شهده الكيان الصهيوني بعد خوض أربع جولات انتخابية في أقل من عامين، إضافة إلى ضعف أداء الحكومة الصهيونية القائمة على ائتلاف بينت - لابيد، وتراجع ثقة المستوطنين بالمؤسسة العسكرية بنسبة تجاوزت 12% خلال عام واحد فقط - وفقًا لاستطلاع معهد الديمقراطية الصهيونية- إلى جانب التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي أمست تنهش بمناعة المجتمع الصهيوني وهذا انعكاس لارتفاع مستوى الانقسامات بين مكونات هذا المجتمع، والذي شهد مزيدًا في التفاوت بين طبقاته بعد انتشار جائحة "كورونا"، وغياب ما أطلق عليه تطبيق العدالة الاجتماعية.
إلا أن حدة الانقسام قد اتّخذت نسبها بالتزايد بعد وصول اليمين المتطرّف إلى الحكم في الكيان الصهيوني، في نهاية العام ٢٠٢٢م، فلم تعد مصطلحات الصراع الإيديولوجي بين اليمين واليسار سائدة في المشهد السياسي الصهيوني الذي شهد تبدلًا جذريًا تجلى مع توجّه تحالف اليمين الليبرالي واليمين المتطرّف إلى إحداث تغييرات جذرية للبنية السياسية لـلكيان الصهيوني، سواء أكان ذلك من خلال تقليص صلاحيات ومهام المحكمة الدستورية العليا ونقلها لتعزيز دور رئيس الحكومة ومكانته وحتّى في تبني سياسة التغاضي عن انتهاكات الجماعات المتطرّفة التي تجاوزت الاعتداءات على العرب الفلسطينيين لتستهدف المستوطنين، وصولًا إلى زيادة نفوذ الشخصيات المتطرّفة وتأثيرها في صنع القرار، على غرار نقل مسؤولية إدارة الضفّة الغربية إلى وزير المالية والاستيطان بتسلئيل سموتريتش؛ بعدما كانت بيد جيش قوات الاحتلال، وتنامي الخلاف بين نتنياهو وقادة الجيش قبل عملية "طوفان الأقصى" وسعيه الحثيث لتهميش دور الجيش ومكانته في عملية صنع القرار السياسي. هذا فضلًا عن استمرار منح أتباع التيارات والأحزاب الدينية المزيد من الامتيازات المتعلّقة بزيادة حصتهم من الميزانيات المخصصة؛ وإعفاؤهم من الخدمة العسكرية، الأمر الذي دفع القوى الصهيونية وخاصة الموسومة بالليبرالية للخروج بمظاهرات حاشدة لمنع النخبة الجديدة المتطرّفة- أي ائتلاف نتنياهو مع اليمين المتطرّف- من تكريس تغييرات جوهرية في طبيعة الحكم داخل الكيان الصهيوني، تسهم في استئثار هذا الائتلاف أو القوى المنبثقة عنه مستقبلًا بالتحكم بمفاصل الحكم، وتهيمن على مراكز صنع القرار، في تهميش لباقي القوى والتيارات التقليدية التي كانت سائدة منذ العام ١٩٤٨م.
خلال هذه المدة القصيرة، وبالتحديد، منذ تشرين الأول في العام ٢٠٢٢م حتّى عملية "طوفان الأقصى"، تصاعدت وتيرة ذروة وحدة التجاذبات الداخلية، وخاصة بعد التقارير للأجهزة الأمنية التي حذرت من مخاطر نشوب حرب أهلية ودخول الكيان الصهيوني في سيناريو الفوضى وانهيار الدولة، على أثر تلقي العديد من الشخصيات السياسية، وفي مقدمتهم نفتالي بينت الذين دعموا المظاهرات، تهديدات بالقتل من جماعات متطرّفة. عملية "طوفان الأقصى" التي شهدتها الأراضي المحتلة فجر السابع من تشرين الأول العام ٢٠٢٣م، وإن حاول نتنياهو استثمارها بداية في محاولة توحيد الشارع الصهيوني وترويض القوى والتيارات خلفه بذريعة "الدفاع عن أمن الكيان الصهيوني"، إلا أنها سرعان ما أظهرت مدى هشاشة المناعة الداخلية لهذا المجتمع، وبصورة خاصة، بعدما تيقن الجميع بأن نتنياهو وزمرة ائتلافه من اليمين المتطرّف يخوضون حربًا لتحقيق مصالحهم الشخصية والسياسية والإيديولوجية.