دار سكنة..عندما تتحول الدار الى قلعة مقاومة
في روايته" دار سكنة" الصادرة عن جمعية الرابطة اللبنانية الثقافية ونشر وتوزيع دار الولاء ـــــ بيروت ـــــ يسافر الكاتب سديف حمادة بعيداً في تفاصيل سيرة والدة الشهيد الشيخ راغب حرب الحاجة سكنة حرب، ويروي حياة الناس في جنوب لبنان إبّان فترة الاحتلال الصهيوني وما سبقها وأسس لها من تربية دينية في" دار سكنة "العامرة بطيبة ونخوة قروية تأبى الضيم وترفض الخضوع للاحتلال، في هجرة عكسيّة وعودة مغسولة بأمطار الحنين إلى الزمن الجميل؛ أيام الزرع والمواسم والحصاد ومواويل الحصّادين.
نشهد في "دار سكنة" حضوراً كثيفاً لبيئة المقاومة ابتداء من أبيها عبد الله حرب الملقّب بأبي قدوم بعد الحادثة المشهورة عنه في قريته "جبشيت" والجوار، إذ داهمه العسكر الفرنسي يريد اعتقاله وليس في يده إلّا القدوم فشهره كالسيف وركض خلفهم، وهم يركضون أمامه ظانين أنه مسلّح ظلوا يركضون لاهثين حتى بلغوا قرية "القعقعية"، عندها التفت أحدهم إلى الوراء، أدرك أنه ليس مسلحاً حينها تحلّق حوله العسكر فلم يعد بإمكانه الفرار فوقع أسيراً.
يستعير الكاتب أسلوب الصحافي الاستقصائي متتبّعاً أخبار هذه الدار المقاومة مجرياً حفريات عميقة في البنى التحتية المؤسسة للعمل المقاوم في لبنان، باحثاً ومنقّباً عن الجذور التاريخية والمنابع الثقافية لهذه المقاومة العنيدة في وجه الاحتلال، وصوّرها كأنما هي تمتلك في بنيتها الإنتربولوجية جينات وراثية تأبى الضيم والحياة مع الظالمين مهما بلغت التضحيات، فعبارة الشهيد الشيخ راغب حرب "الموقف سلاح والمصافحة اعتراف" عندما رفض مصافحة الضابط الإسرائيلي ذهبت شعاراً للمرحلة وبات فتية القرية يكتبونها على الجدران، وامتدت من القرية إلى القرى المجاورة حتى وصلت إلى شوارع بيروت وأنديتها الثقافية، فباتت شعاراً لمرحلة من أصعب المراحل التي مرّت على جنوب لبنان.
وهنا تحضر الثقافة الدينية التي لا توارب في الحقّ ولا تخشى في الله لومة لائم، ومعها تحضر نظرات الكاتب الانطباعية بقوة، فالكاتب لا يترّدد عن قطع السرد ليباشر أسئلةً ويتلقّى أجوبة من شخصية الرواية المحورية" الحاجة سكنة "التي يطمح حمادة إلى تقديمها للقارئ كما هي من دون أن يغفل عن محمولاتها الثقافية وإشاراتها السيميولوجية الموغلة في التراث والتدين، كلّ ذلك بنكهة ريفية فلاحية لا تعوزها الطرافة وخفة الدم على الرغم من الفقر والحرمان، كأنّ هذه البيئة ألفت التقشّف واعتادت عيش الكفاف وتعليم أبنائها من محاصيل شتلة التبغ وبيادر القمح.
يصغي الكاتب لسيرة الحاجة سكنة بأناة وصبر، يتدخّل حيناً، يسألُ، يستوقفها مستوضحاً، يدوّن ملاحظاته، يطوي أوراقه، يغادر حواراته معها حاملاً معه حفنة ذكريات وبقايا من رائحة حبق الدار وليس في مخيّلته سوى سؤال عن كيفية بناء حجارة دار سكنة فنياً لتبقى درساً خالداً للأجيال ونموذجاً فريداً من نماذج هندسة الدور والعمارة.