في ذكراها الـ 134:
ثورة التنباك وحدت الشعب الإيراني وعلماء الدين ضد المستعمر
الوفاق / في مارس/ آذار سنة 1890م وقع شاه إيران ناصر الدين شاه اتفاقاً يمنح احتكار تجارة التنباك الإيراني لشركة بريطانية يرأسها أحد المقربين من رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الوقت اللورد ساليزبوري. وفق بنود هذا الاتفاق تم سحب حق بيع وشراء التبغ والمنتجات المرتبطة به من أيدي الإيرانيين ومنحه للشركة البريطانية، في الوقت الذي كان فيه نحو 20 في المئة من الإيرانيين يعملون في قطاع التبغ، فبمقتضى هذه الاتفاقية تشتري الشركة المحتكرة وحدها كل المحصول من المزارعين، كما بات على تجار التبغ الحصول على إذن من الشركة صاحبة الامتياز والدفع فوراً لها. لم تأخذ هذه الاتفاقية في الاعتبار مصالح الحكومة، ولا مصالح الأمة، ولا استقلال إيران في هذا العقد الذي يمتد لخمسين عامًا. إنّ احتكار تجارة وتصدير التبغ ومشتقاته أضر بشدة بالتجار الكبار والشركات الصغيرة، ومن ناحيةٍ أخرى، لم يشعر المنتجون، الذين اضطروا إلى بيع منتجاتهم لمشترٍ أجنبي، بالحرية بالبيع والشراء. لقد كانوا مُلزمين بتسليم منتجاتهم أو الاحتفاظ بها بسعر معين من الشركة. كما أن تخزين التبغ وعدم بيعه يؤدي إلى إلحاق الضرر به، وبسبب الاحتكار لم يتمكن المستهلكون، الذين كانوا يشملون في ذلك الوقت جميع العائلات الإيرانية تقريبًا، من الحصول على السلع التي يحتاجونها إلاّ عن طريق الدفع نقدًا، بغض النظر عن طريقة البيع والشراء في ذلك الوقت، والتي كانت في الغالب على شكل تبادل سلع أو خدمات مقابل سلع. وقد أثارت هذه الأمور مجتمعة قلق معظم الناس اقتصاديًا. وهناك قضية أخرى أثارت قلق علماء الدين وهي الوصول المفاجئ للأجانب البريطانيين الذين جاؤوا إلى إيران مع شركة التبغ، فوفق الدكتور ”فوريه” فإن ”جيشاً من الرعايا البريطانيين وعمال الشركات، الشرقية منها والبريطانية، تدفق على إيران من كل الاتجاهات. ولم يستغرق الأمر وقتًا طويلاً حتى أحدث وصول هذا العدد الكبير من الإنجليز إلى إيران ضجة، حتى أن الوضع تحول في بعض الأماكن مثل يزد، إلى أعمال شغب، وقد سُجل هذا القلق بالكامل في المصادر غير الحكومية”.
ردود شعبية غاضبة
وهكذا لم يقبل الشعب الإيراني سيطرة الأجانب غير المسلمين عليهم. لقد تعلم المسلمون أنه لا ينبغي للكفار أن يحكموهم، وقد استفزهم الأمر وحشدهم في الحرب بين روسيا وإيران. ولكنهم مع هذه الامتياز شاهدوا الهيمنة الغربية على المستوى الاقتصادي والسياسي. ولذلك أوضح الأهالي مطالبهم بوضوح في برقية للملك مفادها "أن يمتنع عن تسليم موارد المسلمين للنصارى المخالفين للقرآن، وإذا لم يقبل هذا المطلب فسوف يدافعون عن حقوقهم بالسلاح". وانتشرت ردود الفعل الغاضبة والرافضة في كل أنحاء إيران، وفي الوقت نفسه، كان رد فعل سكان العاصمة طهران ومناطق فارس وأذربيجان وأصفهان أكثر حدة من أجزاء إيران الأخرى .
عام مشؤوم للسياسة البريطانية
اعتبر بعض المؤرخين ثورة التنباك الأصلية والتمرد على الامتياز الممنوح لشركة الريجي مؤامرة روسية وحاولوا عبثاً تسليط الضوء على دور روسيا في هذه القضية، والتقليل من الدور الريادي للقوى الدينية وخاصةً المرجعية الشيعية. ولكننا سنناقش أولاً أسباب ودوافع المعارضة الروسية لامتياز شركة الريجي، ومن ثم سنبحث في عواقب فتوى حظر التبغ على السياسة البريطانية. تلك الفتوى التي أدت إلى سحب استثمار الشركة في إيران وتراجع البلاط القاجاري عن موقفه المخالف لسياسة بريطانيا المتشدد، وعلى حد تعبير الكاتب والمؤرخ الإنجليزي إدوارد براون، كان عام صدور الفتوى بمثابة "عام الشؤم" بالنسبة للسياسة البريطانية.
تشويه الحقيقة التاريخية لثورة التنباك
ومن الذين حاولوا تشويه قصة الفتوى ضد الامتياز بشتى الطرق كان أمين السلطان مستشار ناصر الدين شاه. فقد اعتبر في رسالته إلى الشاه وفي تقاريره إلى المندوب البريطاني ثورة التنباك والحركة الإسلامية الرافضة لها نتيجة استفزازات الروس، وفسر الفتوى على أنها حكم، وبالتالي تشويه الواقع وإهمال المحكمة. ويكتب المؤرخ "إبراهيم صفايى" أيضاً مستشهداً برسائل أمين السلطان وتقاريره عن الموضوع نفسه: "من المعروف من محتويات بعض الوثائق أن الروس كانوا هم قادة هذه الاضطرابات ضد شركة الريجي".
أسباب ودوافع المعارضة الروسية للامتياز
صحيح أن روسيا، انطلاقاً من سياستها التنافسية مع بريطانيا، كانت منزعجة من النفوذ المفرط لبريطانيا الذي منحه إياها هذا الامتياز، خاصةً في المنطقة الشمالية من إيران، لكن هذا الانزعاج لم يفقدها حذرها من مقاربة هذه القضية، فهي تعلم أن ثورة الشعب ضد البلاط وشركة الريجي بقيادة علماء الدين، وفق التجربة التاريخية في زمن "فتح علي شاه"، لم يكن من شأنها تأمين مصالح الحكومة الروسية. وعلى افتراض أن الحكومة الروسية أرادت إلغاء هذا الامتياز، فإنها لم تقتنع أبداً أن يتم ذلك من قبل الشعب وتحت قيادة علماء الدين. إضافةً إلى ذلك، لا توجد وثيقة تاريخية موثوقة تثبت جدية وجود روسيا أو نشاطها في هذه الحركة. لكن الحكومة القيصرية الروسية كانت ضد منح الامتيازات لأسبابٍ أخرى أهمها انتهاك "معاهدة تركمانشاي"، ففي عام 1890م، وصل وزير الطاقة الروسي الجديد "بوتزوف" إلى طهران وواصل اتّباع سياسة إبقاء الأجزاء الشمالية من إيران بعيدة عن النفوذ التجاري البريطاني. وهكذا إن وجود شركة الريجي للتبغ، التي كان من المفترض انتشارها في كل مدينة وقرية، كان مريرًا ليس فقط لرجال الأعمال الروس، ولكن أيضًا لوزارة الخارجية الروسية.
أثار الوزير بوتزوف احتجاجه الأول ضد الشركة ، مُدعياً أن الوضع الاحتكاري لذلك العقد ينتهك المادة الأولى من المعاهدة وطالب بإلغاء الامتياز، وبعد بضعة أيام، قدم وزير خارجية روسيا احتجاجًا رسميًا كتابيًا ضدها إلى وزير الخارجية وطلب إلغاء الامتياز.
وأصر "بوتزوف" في معرض اعتراضه على الامتياز الممنوح لشركة الريجي على أن هذا الامتياز ينتهك المعاهدة لأنها منحت امتيازًا حصريًا لشركة أجنبية ومنعت المواطنين الروس من التجارة الحرة في إيران. ويشير في هذا السياق إلى بنود المعاهدة ويكتب معتمداً عليها: "بالطبع، يحق للحكومة الإيرانية اتخاذ ترتيبات لاستخدامها في الزراعة والعلوم وغيرها، ولكن لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن تكون هذه الترتيبات تتعارض مع حرية التجارة المنصوص عليها في المعاهدة"، فأحد شروط حرية التجارة هو القدرة على شراء وبيع ونقل أي نوع من البضائع إلى أي مكان دون تدخل أو منع من أي كان، وإذا منحت حكومة إيران امتيازًا خاصًا لفرد أو شركة لتجارة سلعة تجارية فسيتم منع بقية الأشخاص من تداول ذلك المنتج.
عواقب وانعكاسات الفتوى على السياسة البريطانية
مع احتجاجات العلماء ورجال الأعمال الإيرانيين على أضرار عقد شركة الريجي واعتقال وسجن مجموعة منهم في العاصمة ومختلف محافظات البلاد، دخلت المرجعية الشيعية ساحة المعركة بجهدٍ حثيث، ويقول الباحث "ستيفن بولسون" في كتابه "الحركة الاجتماعية في القرن العشرين في إيران: الثقافة والإيديولوجية وأطر الحشد" إنّ زعيم الحوزة الشيعية "ميرزا محمد حسن الشيرازي"، الذي كان يتخذ من مدينة النجف الأشرف في العراق مقراً له، بعث رسالة إلى الشاه يعترض فيها على تلك الاتفاقية، محذراً من أنها ستؤدي إلى إضعاف الدولة. وتكررت الرسائل دون أن يهتم بها الشاه، فأصدر الشيرازي فتواه الشهيرة بتاريخ 14 ايار/ مايو 1891م والتي حرم فيها التنباك، معتبراً التدخين واستخدام مشتقات التبغ بحكم محاربة الإمام المهدي (عج).
واستجاب الإيرانيون للفتوى فتوقفوا عن استعمال التبغ وحطموا الأراجيل، وكانت هذه الفتوى من القوة بحيث اخترقت حدود المجتمع ووصل صداها إلى المحكمة أيضاً. ولم يمض وقت طويل حتى تم فسخ العقد بقوة الفتوى وتأييد الأهالي كافة. إلاّ أن إلغاء هذا العقد كان له عواقب على بريطانيا على الساحة الدولية والمحلية، فهي أدت إلى تراجع سلطتها وسيادتها عالمياً، واضطرت بريطانيا وهي التي اعتبرت نفسها مؤثرة في البلاط القاجاري وبين النخب السياسية، إلى التراجع أمام فتوى دينية. وتُعتبر هذه القضية فشلاً تاريخياً للاستعمار البريطاني، وحتى بعد مرور سنوات طويلة على ذلك، فإن عبارة "عام الشؤم" للسياسة البريطانية في إيران لا تزال محفوظة في سجلاتها التاريخية. بالإضافة إلى ذلك، عانت بريطانيا من الإذلال أمام منافستها
التقليدية روسيا.
وكذلك سببت هذه الفتوى تحطيم حلم شركة الريجي بالانتشار والتوسع فهي اتبعت حلم الاحتلال البريطاني بضم إيران إلى المستعمرات الإنجليزية، وأرادت اتباع المسار نفسه الذي سلكوه في احتلال الهند وإنشاء شركة الهند الشرقية ثم الوجود العسكري بحجة حماية أمن هذه الشركة، وبإلغاء هذا العقد تحطم حلم الشركة وحلم الحكومة البريطانية.
كذلك تكبدت الحكومة البريطانية خسائر مادية كبيرة بإلغاء عقد الشركة وخسرت أيضًا الأرباح المحتملة، وفشل وكلاء الشركة الذين استثمروا في إيران بمجرد توقيع العقد في إكمال العمل. يقول الشيخ حسن الكربلائي: «أولاً، اشترت الشركة قطعة أرض كبيرة جداً ومميزة بالقرب من حديقة إيلخاني بما يعادل خمسة وأربعين ألف تومان عين أشرفي، وبما يعادل مائة وخمسين ألف تومان، وبنوا عليها قصراً مرموقاً للغاية. وقد بنوا حول المبنى سوراً متيناً ومرتفعاً لحمايته، ويُشرف على القلعة الحكومية وأجزاء أخرى من المدينة بالجص والطوب يبلغ قطره حوالي أربعة أذرع، بحيث يمكن لهذا المبنى أن يتحرك مثل السفينة التي تحمل قذائف مدفع".
ويقول الشيخ "ذبيح الله محلاتي" في هذا الإطار: "دخل عدد كبير من الفرنجة إلى طهران من لندن ومن هناك توزعوا إلى مدن مختلفة في إيران. وفي كل مدينة دخلوها اشتروا أرضًا وبنوا مباني ممتازة لتطوير عملهم. ولكن مع إلغاء امتياز التبغ، طلبت بريطانيا، التي شهدت خسارة كل هذه الاستثمارات، تعويضًا من الحكومة الإيرانية. بالإضافة إلى ذلك، فإن الرشاوى المدفوعة لرجال الحاشية ورجال الأعمال والوسطاء الهامشيين للحصول على امتيازات كانت غير فعالة ولم يتمكنوا من إعادة أموال الشركة.
كذلك مع إلغاء امتياز الشركة، فشل الاستثمار والتخطيط البريطاني في المجال الاجتماعي والثقافي في إيران أيضًا. فلقد كانوا يعتزمون خلق بيئة مؤاتية لتغيير المجتمع الإيراني عبر إحداث تغييرات في الطبقات الاجتماعية والثقافية المختلفة في إيران.
ختاماً بينت ثورة التنباك، باعتبارها تجربة فعالة في مواجهة الاستعمار الأجنبي، إن اتحاد الشعب تحت قيادة رجال الدين قادر على الانتصار على الاستعمار الأجنبي والاستبداد الداخلي. وكذلك أظهرت كذلك تنامي نفوذ رجال الدين الشيعة الذين لعبوا دوراً مهماً ضد الاحتكار، وبات لهم تأثير كبير على التغيرات السياسية المقبلة. ولقد مهدت هذه الثورة للثورة الدستورية التي حدثت خلال حكم مظفر الدين شاه بين عامي 1896 و1907م، والتي كانت تُعتبر أحد أهم عوامل نهاية حكم القاجار، ورغم أن أهداف ثورة التنباك والثورة الدستورية في مواجهة الاستبداد والاستعمار لم تتحقق، إلاّ أن انتصار الثورة الإسلامية حقق أهداف جميع الحركات المناهضة للاستعمار.