الوصفة السحريّة
الوفاق/ خاص
د. رُلى فرحات
استوقفتني اليوم بعض التساؤلات الّتي هي بحد ذاتها موضوع يفوق الوصف ومقال يطول فيه البحث.
هل أطفال غزة تعودوا على الحدث الصادم ولا يتأثرون بأحداث القتل والفقد والتهجير...؟
أمْ أنّ مشاعرهم تبلّدت على هول ما رأوا؟ أمْ أنّها حالة من التّكيّف والتّعوّد؟ ..
حقيقة: نعم، نحن نتفهم وجهة نظر المُنظّرين والمحلّلين الّذين يُشاهدون منازل غزّة تُدمّر وأحياءها تُباد وعائلاتها تُشطب من السّجلّات المدنيّة وأطفالها تُيتّم ونساءها تُرمّل ورجالها تُقتل ومساجدها تُسجّى ومكاتبها تُمزّق ومُستشفياتها تُفجّر وحدائقها تُشرذم ومراكز العلاج فيها تُنسف ومدارسها وجامعاتها تُمحى ومرضاها يخنقون وحديثي الولادة يوأدون على أسرّة النجاة.
هذا جزء من الحقيقة بل قشورها فقط. هذا ما يرونه من منظارهم ومن مدى الرؤية الذي يمتلكونه بحسب المسافة الثقافية والمعرفية الإدراكية والعلاقة الوجوديّة. فمن وُلد وفي فاهه ملعقة من ذهب لن ينتبه لمصطلح اسمه الجوع ومفهوم عنوانه «خواء الأمعاء»... ومن زرع في بقاع لا تُشبهه في الشكل ولا المضمون لن يستوعب مصطلح «الأرض» ولا مفهوم عنوانه «العرض»... ومن يأكل من ما يقطفه من خيرات غيره ويغتني بمال يسرقه ويتزين بثوب صُبغ بألوان الآخرين الذين هم بنظره نكرة لا يستحقون الحياة.. بل إنّهم عبء على هذه الحياه... لن يقرأ مصطلح «الجذور» ولا عنوان مفهوم «الدم»...
سأُخبركم سر هذه الوصفة السحريّة التي يراها السّادة أعلاه تماماً بخلاف جوهرها الذي نعرفه نحن في جنوب لبنان الصّامد تمام المعرفة، بل في الحقيقة نحن حضّرنا هذه الوصفة سويّاً، وقبل المقادير لعلّنا نعرجُ إلى تاريخيتها بدءاً من غزة..
أطفال غزة هم أصحاب الأرض، يولدون فيرضعون حبّ هذه الارض مع حليب أمهاتهم. ينشأون ويكبرون وهم في وسط معاناة مستمرة من الحرمان والتهديد والخوف والتشرّد والقتل والفقد...
شعاعٌ لا يفهمه إلّا صاحب الأرض
يُكافحون في مراهقتهم الأولى ليستوعبوا وعيهم الذي يسبق عمرهم بحسب قيد الهويّة، ويكافحون في صباهم ليستوعبوا فقدهم لرفاقهم بغارة غاشمة على شاطئ البحر حيث كانوا يلهون ويلعبون بالحصاة والصدف وبالكثير الكثير برذاذ أمواج البحر المتكسرة عند أقدامهم. نعم، إنّها متكسرة وإن كانت بالتعبير المجازي وبالتعبير الفعلي كل غازٍّ أتاهم من البحر دفع الثمن غالياً وعلى مر الزمان.. وكذلك يُكافحون في رشدهم ليستعيدوا ما ورثوه من أجدادهم... وفي كهولتهم يُكافحون لقراءة قصص البطولات وسرد حكايات سنابل القمح الذهبية في البيادر تموج مع الأثير فتخبر كروم الزيتون أنها منذ الأزل قائمة في أرض القداسة ومهد الديانات «فلسطين» ولن تُقلع طالما هناك كبير أو كبيرة يُعانق جذعها كما يُعانق العاشق وليفه بعد غياب وكما تلف الأم ذراعيها حول خصر إبنتها فتندمج بلحظة صفاء كل حقبات التاريخ سويّة فيتولّد شعاعٌ لا يفهمه إلّا صاحب الأرض ولا يهتدي به إلّا وارثها...
هؤلاء الأطفال مؤمنون أن الأرض لهم بالأمس واليوم وغدا، ورثوها من أجدادهم الذين سمعوا حكاياتهم وبطولاتهم وقد رؤوا آبائهم يحملون القضيّة على أكفّ خاليّة إلّا من الدعاء بإيمان واتزان وبأرواح تملؤها العزيمة والإصرار وفي قلوب خاشعة لا تعرف الضعف والخوف والتهويل.. مؤمنة صابرة على ما أصابها ولن تنسى أبدا مَنْ أبكى عيونها أو قتلها في أي مرحلة عمريّة كانت..
هؤلاء الأطفال يشعّون أملاً وينطلقون في الحياة رغم تحويلها إلى جافة وقاسيّة وغاشمة من قبل الظالم، هدفهم تناقل الرواية وتعزيز روابط القصّة ونسج خيوط الشمس وحبكها ضفائراً تصل حد الشمس لكسر قيد الحريّة وتحريرها من براثن مصاص دماء غاشم لا يُشبع جوفه مالا ولا أرزاق ولا أموات ولا دمار... لا يروي عطشه دموع أمهات ثكالى وأطفال يتامى ونساء أيامى ولو بعد حين، حتّى تُرفرف بجناحيها على جبين كل طفل وكهل (مسار حياة) وترسم في سماء فلسطين خارطتها كاملة فتُقرع أجراس كنائسها حي على خير العمل وتصدح مآذن جوامعها «الأرضُ لنا».
وليس ببعيد عنّه هذا الطفل الجنوبي الذي يغفو على صوت طائرة حربيّة بدلا من أُحدوات أمّه الحنونة ويصحو على طنين طائرة استطلاع بدلا من ترنيمات صوت أبيه أو صياح ديك أو زقزقة عصفور. هذا الطفل الجنوبي الذي وُلد لأبٍ شهيد لا يعرفه إلّا بالصور أو تعرّف على عمّه الشهيد أو لأخيه أو جده أو خاله أو... أو... واللائحة تطول من خلال شواهد القبور... نعم سادتي إنّه لأمر جيّد أن تُوثّق قبورنا شهادات ميلادنا فنبقى أحياء في ذاكرة أطفالنا.
هذا الطفل الجنوبي الذي يُحرم كل حين وحين من مدرسته وجامعته وعمله وبيته وزرعه وكرمه... هذا الطفل الجنوبي الذي تارة ما يكون خلف الشريط المحتل وطورا يكون داخل ذلك الشريط وفي كلا الحالتين هذا الشريط يتطاول ويمتد ليُكبّل يديه، ولن يأسر أفكاره ولن يحدّ خياله، فينمو ويكبر ويجتهد ويُقاوم ويستشهد ويورث الأرض...
وهكذا تدور الدائرة عند الطفل الفلسطيني لعلّه اليوم ممثلا بالطفل الغزّاوي الذي ينوب شرعا وشريعة عن فلسطين، وعند الطفل الجنوبي الصّامد المقاوم الذي يدفع ضريبة حب الأرض والحفاظ على العرض، لعلّه كبش فداء الشرف والنخوة..
هذا الطفل يتشبث بأرضه حتى وان قتلوا اهله ودمروا منزله وابادوا الحي الذي يسكنه وغيروا المعالم.
هذا الطفل تمتد جذور عمره بعمق التّاريخ، وتطول سنوات عمره بعمر القمح وسنابله والزيتون وكرومه وعلى امتداد شاطى ء يشهد على مجازر تلو أخرى وعلى هتك براءة طفولة لا ذنب لها سوى أنّها ترمز إلى الإستمراريّة وتكاثر نسل بنظرهم عاطل يستحق السّحق والإبادة.
هذا الطفل يعبق عطر إيمانه مثل نبات القندول الأصفر الذي تعبق رائحة زهره أمتاراً وأمتار على ضفاف نهر الليطاني ومتفرعاته عند الوزّاني والخردلي، وفي ثنايا سفوح الجبال بين شقوق صخره العصي على الغزاة الطغاة، وكم حاول الصهيوني ومنذ عقود أن يُدمّر قلعة الشقيف التي تتربع على سفح جبل شاهق يشمخ بعنفوان الطفل الجنوبي، ومحاولاته فاشلة وستظل كذلك مهما امتلك من تكنولوجيا وأنظمة ومالا ودعما وإجراما ..
سيعود يوماً وإن طال الزمن
ذاك الطفل يحمل مفتاح بيت جدّ جدّ جدّه في جيبه الأيسر قرب موضع القلب لأنّه يُؤمن أنّه سيعود يوماً وإن طال الزمن ليستعيد مُلكاً حرمه منه العدو الغاشم.
لعلّ المسافة بين الطفلين لا تتجاوز بضع ساعات ولا تتعدى ال 300 كلم، نتفكّر قليلاً، ننتبه أنّ الهواء مشترك والأفق موحّداً والبحر متصل، ولعلّ أمواج البحر تُخبر بهديرها ما يجري على ساحل الطفلين، وينقل الهواء الترددات بين المنطقتين فيسمع الطفل في غزة تنهدات الطفل في الجنوب ويشمُّ الطفل الجنوبي بكاء القهر من عيون طفل غزّة. ولا تنسى أبداً أيّها المحلّل المخضرم الذي تبذل جهدك لتُصبح رقماً صعباً على شاشات التلفزة العالميّة في التحليل السياسي والإجتماعي والحربي أنّ التراب مشترك، وقد حاكته حوافر الخيل ذهاباً وإياباً نسيجاً لا تفهم حبكته ولا تستطيع فك ارتباطه مهما تعمّقت في خوارزميات الذكاء الاصطناعي... لماذا؟ سأخبرك كما قلت لك في بداية حديثي عن الوصفة السحريّة والخاصّة جداً جداً وأظن لا مثيل لها على كوكب الأرض:
ببساطة لأنّ بين الأرض والمقاوم رابط لا يُكسر وعلاقة لا يفهمها إلّا من اختبر هذه الأرض فجُبل من ترابها وتنشّق هوائها وتغذى على قمحها وزيتونها وشرب من ينابيعها وتعمّد في بحرها، فكبر في روابيه وتسلّق جبالها وزرع سهولها وامتطى تلالها وتمرّغ في رمالها وتأرجح بين أشجارها وافترش عشبها وسبح في أنهارها وسمع وشوشة صدفها ورسم على جدران مغاورها وكهوفها وحمّل الطير أمانيه..
أتعرفون أمراً: المشكلة ليست بمعرفتكم سر الوصفة، ولا بكيفيّة تطبيقها...
نسيت أن أُخبركم بأنّ الوصفة ُرافقها تعويذة «ألا لعنة الخالق على القوم الظالمين» وستبقى كل نقطة دم تُزهر مقاوماً إلى أقرب الأجلين: الحريّة أو يوم الدّين وفي الحالتين يكسب الطفل المقاوم مرتين!!