لم يُصلب السيد المسيح(ع) مرتين...!!!
الوفاق/ خاص
د. رُلى فرحات
تحتفل الكنائس المسيحية بميلاد يسوع في 25 كانون الأول – ديسيمبر من كل عام عند الطوائف الشرقيّة وفي 6 كانون الثاني يناير عند الطوائف الغربيّة. ميلاد السيد المسيح هو عيد مولد النبي عيسى(ع)، وإن تعددت التواريخ يبقى ميلاد المعجزة من أمه القدّيسة المباركة مريم عليها السلام. إنّه ميلاد المحبة والسّلام والخير.
ترتدي مدن العالم كلها أبهى حلّة وأجمل زينة وتُنار فيها الأضواء الملونة وتكثر فيها الأشجار التي ترمز إلى ميلاد مَنْ قضى سنوات عمره على الأرض بنشر تعاليم المحبة والسّلام وبتخليص العالم من الأمراض والأحقاد والأضغان. النّبي عيسى(ع) صاحب المبدأ الشهير المتوارث «من لم يكن منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر» أي أنّه نحن البشر خطّاؤون ونحتاج للمغفرة وللتسامح فنحن لسنا قدسين ولا ملائكة والمشكلة ليست بإقتراف الخطأ بل بالتّشبث بالأخطاء وبالعناد وبعدم التراجع والإعتذار.
مشكلتنا اليوم هي بتضخم الأنا ونرجسيّة البعض وأنانيتهم الّتي لا تؤدّي إلّا للخراب ولمزيد من الدّمار ولكثير من الدّماء. وسلطويّة هذا البعض رسمت الحزن على وجوه معظم الشّعوب وارتدت البيوتات السواد وامتلأت القلوب بالدموع والجروح النّاجمة عن الصّدمات. فالعالم اليوم أصبح مقسوماً إلى أربعة أقسام وبالطبع غير متساوية وغير متكافئة، فقسم وهو أقليّة يحكم ويستبد ويبطش والثاني وهو الأكثريّة السّاحقة يتبع الأول بدون قيد أو شرط، وروحه فداء للزّعيم، كيف لا والزّعيم هو ربهم الأعلى وماسك لقمة عيشهم ومتحكم بمصيرهم، وهم رعاع والأصعب من هذا كله أنّهم لا يفقهون، ولا يُدركون، يعيشون على هامش الحياة ويموتون تحت أقدام الزّعيم وهم فرحون. وقسم ثالث وهو كأنّه غير موجود في هذه الحياة حيادي في كل شيء يقف مشدوها لا يتدخل ولا يُبدي رأيا، يهمه أكله ومشربه وغنمه (مصالحه) ليس إلّا وإن خرب العالم من حوله أو تدمر. والقسم الأخير وهو النّدرة اليوم، يتميّز أفراده بالنخوة وبالشهامة ويتمتعون بالصبر وبالإيمان. يملأ العزم قلوبهم والحريّة أفكارهم، لا ينامون على ضيم ولا يتبعون فلان ولا يتماهون بعلّأن. ما يهمهم هو الأرض والعرض وشعارهم لا تراجع ولا استسلام، إمّا الحياة بعزة أو الموت بشرف، وهيهات منهم الذلة.
هؤلاء هم الأبطال المقاومون المرابطون على الثغور، اليقظون على خط النّار. هؤلاء الذين يُقدمون الغالي والنّفيس في سبيل الأرض والحريّة. حريّة الفكر والمصير والمسار والوطن. هؤلاء هم أصحاب الأرض الحقيقيون من شباب ونساء وأطفال وعجزة ورجال، فكلّ فرد منهم يُحارب على طريقته ومن صلب إيمانه بقضيته، لا فرق بين طائفة وأخرى أو مذهب وآخر. بل لا فرق بين من يتديّن بديانة سماوية أو وضعيّة، فالكرامة والشرف عنوانان للإنسانيّة الّتي لا يحدها لون أو فئة أو مركز أو عمر أو جنس. الإنسانيّة يجمعها الضمير والأخلاق والقيم، ويُعزّزها الإيمان والصبر وحب الآخر والعطاء والإحسان. ويُنمّيها التّعاون والتّسامح والمحبة والسّلام، وهنا نلتقي من جديد مع نبي الرّحمة والمحبة والتّسامح، مع نبيّ أبى أن يدعو على قومه ويُنزل بهم الهلاك، أو حتى يمحوا ذكرهم كما حصل مع قوم لوط وعاد وثمود... نبيّ تحمّل كل المآسي والمظالم ومشى على درب الآلام والعذاب والوشايّة وظل كما هو يدعو إلى المحبة والتسامح والسّلام. نبي الله عيسى عليك سلام الله الذي أطال الله بعمره ليكون شاهدا مع المهدي(عج) المخلّص على تحقيق رغبتك ومطلبك بأن تُملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ان ملئت جوراً وظلماً. فتؤذنان سوياً في المسجد الأقصى فتصدحُ بالأذان أجراس كنيسة المهد مُبشّرة بولادة النور، نور الحياة تحت مظلة الرحمن وفي كنف يسوع والمخلص. فتُشاركها أجراس كنيسة القيامة أقدس الكنائس المسيحية، وأكثرها أهمية في العالم المسيحي. بنيت الكنيسة فوق الجلجثة، وهي مكان الصخرة التي صُلب فوقها. وقد سُمّيت كنيسة القيامة بهذا الاسم، نسبة إلى قيامة يسوع، قيامة الحق، قيامة رفع الظلم والتي ستكون شاهدا من جديد على إزالة الكيان الصهيوني وهذه المرة لن يُشردوا في الأرض 40 سنة بل سيُمحى ذكرهم.
نعم الأرض مُلئت ظلماً وجوراً على كل بقعة منها، ننظرُ حولنا، نتصفح الأخبار فنرى مشاهد الدمار والخراب والقهر والظلم في كل مكان. هنا فئة تطغى على أخرى بأسلحة فتّاكة بدون رحمة. وهناك فئة تتحكم بالمأكل وبالمشرب وبمصير شعوب لا حول لها ولا قوة فتعيش كما يُقال من قلة الموت، أي أنّها لا تتمتع بأدنى مقومات الحياة البشريّة والإنسانيّة، يسلبون خيراتها ويحرقون أرزاقها ويتحكمون بمصائرها بدون رحمة وبدون أن يرف لهم جفن. والآن نرى مجتمعاتنا تتخبط في ما بينها لا تستطيع الإتفاق على موقف محدد أو على إبداء قرار مشترك. فكل على مصالحه حريص لا يأبه لما يجري لجاره وما يُصيبه من ظلم ومآسٍ!!
العالم كله ينظر ويشاهد، جزءٌ يتعاطف ويثور وتصدح حناجره لرفع الظلم وإيقاف الحرب، وجزء يُكمل حياته بصورة طبيعيّة كأنّ ما يجري في غزة وفي جنوب لبنان هو في كوكب آخر خارج كوكب الأرض.
في يوم ميلاد السيد المسيح(ع) ومع إنتهاء عام شهدنا فيه ما شهدنا من دمار وقتل وشرذمة وفقد ودماء. سواء كان ذلك نتيجة لغضب الطبيعة بدءا من زلزال سوريا وتركيا مع 55,000 ضحيّة و 100,000 إصابة وملايين النّازحين وحوالي 300 ألف مبنى مدمر. إلى زلزال المغرب الذي أدى إلى مقتل وإصابة الآلاف، إلى الفيضانات في ليبيا التي أدت إلى إغراق أحياء بكاملها ودمرت مدنا وتسببت بمقتل أكثر من 4,000 شخص وفقدان أكثر من 8,000 شخص ونزوح أكثر من 43,000 شخص. أو بما نتج عن إجرام صهيوني تحت ذريعة عمليّة طوفان الأقصى والّتي استغلوها لإبادة أكثر من مليوني شخص وهم أصحاب الأرض وسكان غزة الأبيّة.
فلننظر إلى حجم الدمار الحديث الذي أصابنا ويُصيبنا منذ السابع من تشرين الأول / أكتوبر 2023 وحتى هذه اللحظة قاربنا على التسعين يوما، وآلة الحرب مازالت تفتك وتضرب وتحصد الأرواح بدون حسيب أو رقيب. تقصف بالأسلحة الفتّاكة كل شيء، كل عنصر، كل حي. تُدمر الشجر والبشر والحجر، ولم يسلم البحر منها حتى!!
أكثر من 20,000 قتيل وآلاف المفقودين تحت الأنقاض، ونحو 60,000 مُصاب، وآلاف النّازحين. كذلك دمار آلاف الوحدات السكنيّة والتّجاريّة ودور العبادة والاماكن التعليميّة. أحياء دُمّرت عن بكرة أبيها وعائلات بأكملها شُطبت من السّجلات المدنيّة. آلاف الأطفال القتلى والجرحى وآلاف الأرامل والأيتام. صدمة تلو صدمة وخيانة بعد أخرى وتقاعس إلى أبعد حدود من الجميع.
حتى السلطة الرابعة المحميّة بموجب القوانين الدوليّة لم تسلم وقدمت عشرات الشهداء أيضا.
وفي جنوب لبنان الجريح أكثر من 150 شهيدا مع عشرات الجرحى ومئات الأبنية المدمرة والأراضي المحروقة... وما زال الوضع يتفاقم ويغلي على الحدود مع فلسطين المحتلة ولا أحد يستطيع أن يتكهن متى تفلت زمام الأمور وتتوسع قواعد الإشتباك.. فالحروب دائما لا تُحمد عقباها وتولد الحسرة والحزن والبكاء.
رغم كل الدمار والخراب ورغم الألم سيبقى الأحرار في العالم يحملون شعلة الأمل، ينهضون من تحت الرّكام كالمارد المتمرّد على واقع فُرض عليه فرفضه وانتفض وأبى إلّا النصر. هذا الشعب المقاوم الذي يحمل جراحاتهم ويبذل دماءه وأرواحه في سبيل النصر ولا يقبل بأقل من ذلك أبدا ومهما كان الثمن غاليّا.
المعادلة بسيطة: الأرض = العرض، والدماء = الكرامة، والنصر = الإيمان.
فالمسيح(ع) لم يُصلب مرتين بل شُبه لهم هذا حسب تخيلاتهم وهلوساتهم وخدعهم كتبهم الكاذبة وأقلامهم المأجورة. في المرة الأولى قد صُلب الواشي ومات بأبشع وأشد الموت وبقي المسيح(ع) على قيد الحياة في أعلى السموات بجوار الرحمن وفي رحمته يُصلي ويدعو لخلاص أمته التي سارت على درب الآلام وتحملت حتى نالت ما نالته من رحمة وإيباء. وفي المرة الثانيّة والتي هي أقسى من الأولى وأشد وطأة وأكثر إيلاماً، يجتمع الأغلبيّة في هذا العالم ليبطشوا وليغيروا معالم التّاريخ ورواية الخلاص، لكن هيهات هيهات، فمصيركم لن يقل قسوة عن الواشي الأول وستبقى الإنسانيّة سلاح الأقوياء المؤمنين الصابرين الأوفياء ومُناصري الحق في أرض الميعاد وفي جبل عامل وفي كل بقعة تطأها قدم مقاوم شريف بغض النظر عن ديانته أو طائفته أو لونه...
غزة ستنتصر رغم الألم فلم يُخطئ من سمّاها غزة وهي تعني القوة والمنعة في السيريانيّة والثروة والغنى في اليونانيّة وحتّى العرب أسموها «غزة هاشم» نسبة إلى والد جد النبي «هاشم بن عبد مناف» والذي دُفن فيها.
غزة لا تبكي ألم الخيانة والتقاعس، ولا تذرفي دموع التّخلي، فأنت لست وحيدة وستنتصرين ببركة الصبر وبقوة الإيمان وبإنسانيّة التسامح، ولقلبك غزة ألف تحية وسلام في آخر يوم من عام 2023 والذي شهد على كثير من الأحداث الداميّة... وإن غدا لناظره قريب....