كِتَاب فلسطين من أهازيج وربابة... ومقاومة
هل كانت فلسطين قبل أن يأتي شذّاذ الآفاق لاغتصابها «أرضاً بلا شعب لشعبٍ بلا أرض» كما تروّج الأكذوبة الصهيونية، أو كما قالت رئيسة وزراء العدو غولدا مائير مرة: «أين هم الفلسطينيون؟ إني لا أراهم»... بلى كانوا متجذّرين في ترابها وهوائها و«بقلها وقثّائها وفومها وعدسها وبصلها» وليمونها وقمحها وتينها وزيتونها، في ترابها المروي بالماء والدم، بماء جداولها التي تبرّك فيها الفلسطيني منذ فجر التاريخ، بتضاريس أرضها التي تشبّه بها في أزيائه على امتداد خريطة التراب المقدّس، بأعيادها وأعراسها التي غنّى بها ذلك الشعب الأصيل للعريس قبل أن تصير كل أعراسه شهادة، وللعروس في ليلة حنّائها قبل أن يصير خضابها الدم، وقبل أن يحول سفلة الغرب وثكنتهم المدججة إسرائيل أعيادنا إلى مآتم، ويعمّدوا أطفالنا بالحديد والنار. كان للفلسطيني ولا يزال غنى فائق الجمال في خزانة تراثه، من الأعياد الدينية إلى تقاليد الزفاف مروراً بالروزنامة الزراعية المذهلة في تقسيماتها، وليس انتهاء بالتطريز الفلسطيني المرهف الذوق الذي يعبّر عن هوية شعب حيّ بفطرته وعاداته وطبيعته. شعب تحاول آلة الموت اليوم إبادته ومحو كلّ ما يمت إلى تاريخه وثقافته. لكنّه سيعمّد أطفاله على جبل الطور كما تقول الأهازيج، ويفرش سجّاده على مرج بن عامر، ويصلي صلاة الاستسقاء فوق السطوح ليأتي الطوفان. نستعرض في «كلمات» باقة من التقاليد والمعتقدات والحرف الشعبية جمعها المؤرخ فيكتور سحاب في كتاب بديع حول الفولكلور الفلسطيني الذي «ترقى مهام حفظه من الاندثار إلى مستوى حماية كيان الشعب ووحدته من التهافت».
عماد الأطفال
أمّا العماد، فالمعتاد أن يُحتفل به قبل بلوغ الطفل سنته الأولى. وأفضل أيامه يوم عيد الغطاس في السادس من كانون الثاني (يناير) من كلّ سنة لأنّه اليوم الذي يصادف ذكرى اعتماد السيد المسيح وفق المعتقد، وإلّا فضّلوا يوم الأحد. ويختار والدا الطفل إشبيناً وإشبينة من الأقارب والأصدقاء. ويُراعى في الاختيار الحرص على توازن العلاقات بالأقارب، أو يسعى إلى التودّد من وجيه أو عائلة. ويُدعى إلى الاحتفال الأقارب والجيران، ويكون الاحتفال أشبه بما نشهده في الأعراس أيضاً من غناء ودبكة وذبح خراف وتقديم حلوى وقهوة وتهانٍ ونقوط. وعلى الإشبين إحضار ملابس جديدة للطفل يلبسها بعد الفراغ من العماد. وعليه كذلك أن يُوزّع الشموع على الحضور ويدفع أجرة الكاهن. وقد يُعمّد الطفل في البيت، ولكنّهم أخذوا يفضّلون التعميد في الكنيسة. ومن أهزوجات العماد:
عمّده يا خوري ع جبل الطور
عمّدنا الغالي بجرن البلور
عمّده يا خوري واعطيه لإشبينه
يا دمعته هالغالي نزلت ع جبينه
عمّده يا خوري واعطيه لأمّه
يا دمعته هالغالي نزلت ع تمّه
وبعد العماد تُطلق الزغاريد، ومنها:
أويها أبونا يا عباس
أويها يا سكر اليابس
أويها يا معمّد الصبيان
أويها يا مكلّل العرايس
التبرّك بالماء والمزارات
من العيون والآبار في فلسطين ما يُحتفى به في موعد معيّن. فالمسلمون يعتقدون أنّ مياه زمزم تفيض في عاشوراء كلّ سنة وتمتزج بمياه الينابيع في جميع البلاد الإسلامية. ولذا يشربون من المياه في ذكرى استشهاد الامام الحسين(ع) وتغتسل النساء في حمّام الشفا في القدس في هذه الذكرى. ومن هذه العيون ما تخصّص بشفاء أمراض بعينها. فالمسيحيون يؤمنون بأنّ السيد المسيح أرسل الأعمى إلى عين أم اللوزة، وهي قرب سلوان، ليغسل عينيه بمائها. ولذا ينصحون بهذه العين لمرضى
العيون.
وتستحم العواقر في حمام ستنا مريم في الجانب الشمالي الشرقي من سور القدس. وينسب بعضهم إلى المياه قدرتها على تغليب عدد الذكور على عدد الإناث في بعض القرى، والعكس في بعضها الآخر. وإذ يزيد عدد الرجال في أرطاس والخضر وبيت جالا وبتير وحوصان والولجة يسمّون السلالة الغالبة الذكورة «شجرة مرّة»، فيما يغلب عدد الإناث في قرى أخرى فتُسمى «شجرة حلوة». وسبب هذا في معتقدهم المياه التي يشرب منها سكّان هذه القرى.
ويؤكد أحمد سامح الخالدي في كتابه «أهل العلم والحكم في ريف فلسطين»، أنّ الرجال والنساء يستحمّون بمياه الحمّة الساخنة شرقي بحيرة طبريّا للاستشفاء.
كما تروي بعض المعتقدات أنّ عرائس الجن قد يظهرن في مظهر جميل وهنّ يمتشِطن على حافة العين لإغواء الرجال الذين يُصادف مرورهم. غير أن الاستعاذة بالله تجعلهن يختفين. وقد يظهر في عين سلوان، روح شرير في شكل جمل يشرب الكثير من الماء. ومما يُذهل الفلّاح العيون الساخنة. وتفسيرهم أن الأبالسة يداومون على غلي الماء
قبل انبجاسه.
فقد أمر الملك سليمان الجن بهذا ليستحم الناس. ولما كانت الأرواح عمياء صمّاء، فقد مات سيّدها ولم تعلم بموته، فواظبت على تسخين الماء خوفاً من عقابه. وتخشى النساء المؤمنات الاقتراب من الينابيع المقدّسة أو مسّها إذا لم تكنّ طاهرات.