في إطار سعيها للحفاظ على مصالحها
كيف تعاطت روسيا مع حرب غزة و ما هي الأسباب و الدوافع؟
الوفاق/ شهد العالم تصعيدًا خطيرًا في الصراع بين الكيان الصهيوني وحماس في قطاع غزة، حيث قام الكيان الصهيوني بشن حملة عسكرية وحشية على السكان المدنيين الفلسطينيين، مما أدى إلى مقتل وجرح الآلاف وتدمير البنية التحتية والمنشآت الصحية والتعليمية. وفي ظل هذه الأزمة الإنسانية، اتخذت الدول الكبرى مواقف مختلفة تجاه الصراع، بعضها دعم الكيان الصهيوني وبعضها ندد بالعدوان وبعضها حاول التوسط لوقف إطلاق النار. ومن بين هذه الدول، تبرز روسيا كدولة تمر بتحول ملحوظ في سياستها تجاه الكيان الصهيوني، حيث تحولت من موقف محايد إلى موقف معادٍ ومناهض نسبياً. وفي هذا السياق نشر مركز "ايراس" مقالاً ناقش فيه تطورات و دوافع الموقف الروسي.
عندما اندلعت الحرب بين الكيان الصهيوني وحماس في 7 أكتوبر، أصدرت روسيا بيانات حذرة في ردها الفوري على الحرب، داعية إلى ضبط النفس ووقف إطلاق النار. و مع تصاعد الهجوم الكيان الصهيوني على قطاع غزة و تماديه في القصف و الإجرام، تخلت روسيا بشكل متصاد أيضاً عن موقفها المحايد، وأصبحت تنتقد وتعادي الكيان الصهيوني علنًا. يبدو أن رد فعل روسيا الأولي تجاه اندلاع العنف كان نتيجة لتقييمها الدقيق لمصالحها المتنافسة والمتعارضة في الشرق الأوسط.
احتفظت روسيا دائمًا بعلاقات بناءة مع الكيان الصهيوني، حيث تمتع كل من فلاديمير بوتين، رئيس روسيا، وبنيامين نتنياهو، رئيس وزراء الكيان الصهيوني، بعلاقات وثيقة وتعهدا بتعميق العلاقات بين الكيان الصهيوني و روسيا. أحد أسباب العلاقات الودية بين روسيا والكيان الصهيوني هو وجود أكثر من مليون مهاجر ناطق بالروسية هاجروا خلال الاتحاد السوفياتي. ومع ذلك، في السنوات الأخيرة، ومنذ الحرب الروسية الأوكرانية عام 2022، اقتربت روسيا بشكل متزايد من إيران، وهي العدو اللدود للكيان الصهيوني. في ضوء هذه الخلفية، وجدت روسيا نفسها في موقف حرج بعد عملية "طوفان الأقصى" يوم 7 أكتوبر، حيث لم ترغب روسيا في انتقاد حماس أو الدفاع عن الكيان الصهيوني علنًا. مع مرور الوقت، شنت روسيا المزيد من الانتقادات للعمل العسكري للكيان الصهيوني، خاصةً مع تقييمها للمصالح والحلفاء في المنطقة، الأمر الذي اضطرها إلى رد فعل أكثر صراحة.
سياسة روسيا الواقعية
سعت روسيا في سياستها الخارجية في السنوات الأخيرة إلى استخدام نظرية الواقعية ووضع مصالحها في المقدمة بمنطق التكلفة والعائد. صعب الدعم الغربي الشامل و اللامحدود للكيان الصهيوني على روسيا إحداث التوازن بين الجانبين. وقد سعت روسيا من خلال بعض الإجراءات في السنوات الأخيرة إلى الحفاظ على التوازن في العلاقات بين حماس والكيان الصهيوني.و وفقًا لمارك غاليوتي، الكاتب والمحلل السياسي، فإن روسيا "تقف الآن في وضع يصعب فيه الحفاظ على مثل هذا التوازن". مشيرًا إلى أن روسيا حسبت أن علاقاتها مع إيران والسعودية و لاسيما ايران تحديداً ذات قيمة استراتيجية واقتصادية أكبر من علاقاتها مع الكيان الصهيوني، يقول: "إذا فكرت في من تحتاج روسيا حقًا؟ تحتاج بالتأكيد إلى إيران، و إلى السعودية أيضا، لأنهما معًا يمكن أن يمارسا سيطرة كبيرة على أسعار النفط على الصعيد العالمي. بل إن إيران باعتبارها العدو الرئيسي للغرب يمكن أن تكون حليفًا رئيسيًا لروسيا. في الوقت الحالي، تحت الظروف القائمة، تحتاج روسيا إلى أن تضحي بالكيان الصهيوني".
تأثر المصالح الروسية
تغير الموقف الروسي تدريجيًا على مدار الأسابيع الأخيرة حيث أصبح واضحًا أن الحرب و الصراع الممتد يؤثر على مصالحها العسكرية والجيوسياسية. بينما شن الكيان الصهيوني في أكتوبر غارات جوية على عدة قواعد عسكرية في سوريا (أحد أهم حلفاء روسيا) ،و أشارت وزارة الخارجية الروسية في بيان لها إلى أن الهجوم "ينتهك سيادة سوريا والقوانين الدولية". وفي واحدة من أكثر التصريحات انتقادًا حتى الآن، قال سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، في 28 أكتوبر إن قصف الكيان الصهيوني لغزة ينتهك القانون الدولي ويشكّل خطرًا على وقوع كارثة "لعقود عديدة إن لم نقل قرون". وقد انعكست تلك التصريحات على نطاق واسع من جانب سفير روسيا لدى الأمم المتحدة، الذي أعلن في 2 نوفمبر أن الكيان الصهيوني ليس له الحق في الدفاع عن النفس باعتبارها "دولة محتلة" بموجب القانون الدولي.
قامت روسيا بإظهار المزيد من رفض التعامل مع الكيان الصهيوني من خلال استضافة وفد من حماس في موسكو في أواخر أكتوبر للتفاوض بشأن الرهائن الذين أسرتهم الجماعة. كما أبلغ بوتين المسؤولين الحكوميين والأمنيين الكبار بأسفه للأزمة الإنسانية في غزة. وفي كلمة تلفزيونية في 30 أكتوبر، أشار بوتين إلى "الأحداث المروعة التي تحدث الآن في غزة، حيث مئات الآلاف من الأبرياء بلا مأوى للفرار أو الاختباء من القصف العشوائي يُقتلون... عندما ترى الأطفال الملطّخة بالدماء، الأطفال الأموات، معاناة النساء وكبار السن، عندما ترى الأطباء يُقتلون، فإن ذلك بلا شك يدفعك لتحجب دموعك بيديك. لا يوجد وصف آخر لذلك". كما سعى بوتين إلى ربط الصراع في غزة بالغرب، مشيرًا إلى أن الغرب هو عامل عدم الاستقرار في الشرق الأوسط. وترى تاتيانا ستانوفايا، كبيرة الباحثين في مركز كارنيغي أوراسيا، أن "الموقف الروسي تجاه الكيان الصهيوني أصبح أكثر حساسية بشكل ملحوظ. حتى لو امتنع بوتين عن الهجوم المباشر على الكيان الصهيوني في الملأ العام، فإنه مع ذلك يراها كجزء من سياسة أمريكية لزعزعة الاستقرار وخلق الفوضى".
امتعاض روسي من مواقف الكيان الصهيوني
ترى موسكو الآن تل أبيب أكثر فأكثر على أنها تتماشى مع مجال نفوذ واشنطن - تقييم يهمش بحكم الأمر الذاتي أهمية الكيان الصهيوني بالنسبة للكرملين ويربطها بالمنافسة الجيوسياسية الأوسع نطاقًا بين روسيا وأمريكا. وبشكل ضمني، هناك حافز أقل بالنسبة للكرملين للحفاظ على والاستثمار في سياسة متوازنة تجاه تل أبيب، كما فعلت في السابق. مع الغزو الروسي لأوكرانيا التي وضعت الكيان الصهيوني المدعومة من الغرب في وضع صعب، كانت العلاقات مع الكيان الصهيوني سيئة قبل عملية "طوفان الأقصى" في 7 اكتوبر و ماتلاه من قصف وحشي و عمليات عسكرية للكيان الصهيوني. تعرض الكيان الصهيوني لضغوط لإدانة ماسمي "بالغزو الروسي لأوكرانيا" وفرض عقوبات مشتركة مع الدول الغربية ضد روسيا. قاوم الكيان الصهيوني هذا الأمر وامتنع عن فرض العقوبات على خلاف حلفائها الآخرين، و لكنه من جهة اخرى قدم مساعدات لأوكرانيا. ومع ذلك، بدا أن الموقف الغامض للكيان الصهيوني أزعج كلا من روسيا والغرب. ربما تحسب روسيا أن علاقتها مع الكيان الصهيوني قد تتغير في حالة تغير القيادة. حاليًا، لا يحظى رئيس وزراء الكيان الصهيوني نتنياهو بشعبية. وهناك أيضًا حسابات مفادها أن أيام نتنياهو في السلطة ربما تكون معدودة وقد تأتي حكومة جديدة أكثر عدائية تجاه روسيا.
ومع ذلك، تُعد مصالح روسيا حاليا أكثر أهمية من العوامل الأخرى، حيث تسعى موسكو لإدارة قراراتها من خلال تقييم الظروف. وفي المقابل، استمرار الحرب وتحويل الرأي العام يصب في مصلحة روسيا. خلال الحرب الروسية الأوكرانية، قدمت الدول الغربية مساعدات كبيرة لأوكرانيا وشوهت الصورة العامة لروسيا باستمرار في أذهان الرأي العام العالمي. وحاليًا، تم تحويل اهتمام الولايات المتحدة وحلفائها إلى حد كبير نحو دعم الكيان الصهيوني، وتراجعت أوكرانيا إلى حد ما عن أولويتهم القصوى. وقد تسبب عدم دعم بعض الدول الغربية حتى في الأيام الأخيرة في قلق زيلينسكي أيضًا