رمز و إنطلاقة الثوار
دور المساجد المحوري في انتصار الثورة الإسلامية وإسقاط النظام البهلوي
عندما هاجر النبي الأكرم (ص) من مكة إلى المدينة ليبدأ بصياغة معالم المجتمع الإسلامي، كانت أول خطوة قام بها (ص) أن بنى مسجد المدينة، كخطوة أولى وكحجر أساس للمجتمع، ومنذ تلك اللحظة صار المسجد محور الحركة الإسلامية كلها، ليس كمجرد عُرف تعارف عليه المسلمون، بل شرع ومنهج أكدت عليه الروايات وأكد عليه القرآن الكريم بالإضافة إلى سيرة المعصومين (ع). وعندما هاجر الإمام الخميني (قدس) بالشعب المسلم في إيران من حكم ومجتمع الملوك والسلاطين، إلى حكم اللَّه (تعالى) ومجتمع التوحيد العملي، عاد ليضع حجر الأساس لهذا المجتمع ويؤكد عليه من جديد ألا وهو المسجد، فيقول الإمام (قدس):"أحيوا الثورة من خلال المساجد، التي تعتبر حصون الإسلام المنيعة”.
قبل انتصار الثورة الإسلامية كانت جميع وسائل الإعلام ووسائل الاتصال الجماهيري تحت تصرف نظام الشاه؛ كما حُرمت القوى الثورية من إمكانية القيام بأي نشاط ثقافي أو اجتماعي أو سياسي؛ ونتيجةً لذلك، أصبحت المساجد وسيلة اتصال مناسبة لتوعية الناس وإعلامهم، وقاعدة قيمة لتنظيم وقيادة ثورة الأمة. وكانت المساجد بمثابة حلقة الوصل بين العلماء وقادة الثورة وأبناءها الذين كانوا مسؤولين عن تعبئة الشعب لمعارضة سياسات الحكم. وهنا قال المرحوم آية الله طالقاني عن بداية الثورة من المساجد والحضور الكبير والفعال للناس فيها: "إن ثورتنا بدأت من المسجد ويجب أن تستمر في المسجد، ويجب تعلم الإسلام الأصيل في المساجد. ليست الشيوعية ولا الرأسمالية، بل الإسلام. لا شيء يمكن أن يحل محل مسجد، لا كنيسة، لا جامعة، لا مدارس، لا ثكنات. علينا أن ننقذ العالم عبر المساجد".
لقد كانت المساجد على الدوام مراكز مؤثرة وحاضرة في المشهد الثوري الإسلامي؛ ولا شك أنها نجحت في استقطاب القوى الشابة وتدريب وتنظيم الشباب وتوعيتهم بأفعال الشاه وارتهانه للغرب، فأصبحت المساجد قواعد القوة للثورة الإسلامية ومعاقل النضال؛ أصبحت الشرائح الثورية على دراية بالمسؤوليات الدينية والقرارات الثورية والتعاون الاجتماعي عبر التوافق الجماعي داخل هذه القواعد المحلية الضخمة، وأعدت نفسها لمعركة طويلة من أجل تحديد مصيرها؛ وفي هذا الصدد، أشار إمام الأمة الإمام الخميني (قدس) إلى المسجد بـ"المعقل".
المسجد معقل الثوار
في تاريخ الإسلام، لعب المسجد دائماً دوراً مهماً واستراتيجياً في المجتمع. ويُظهر التاريخ المعاصر كذلك الدور المهم للمساجد في النضال ضد الاستبداد والاستعمار. في حركة الإمام الخميني (قدس)، لعبت المساجد دائماً دوراً مهماً ومؤثراً في تنظيم نضال الثوار. بحيث شكلت إحدى أهم قواعد الثورة. وقد أدرك النظام البهلوي الدور الأساسي للمساجد في النهوض بالحركة وتوسعها، لذا جرب عدة أساليب منها للحد من مشاركتها الفعالة في تنظيم الثورة منها: إغلاق المساجد، واعتقال المناضلين، وتعيين مسؤولين ظاهرين وغير ظاهرين في المساجد، وعزل القائمين على شؤون المساجد، وتعيين آخرين موثوق بهم ومنع الدعاة والخطباء من اعتلاء المنبر لمنع دور المساجد في الحركة. على سبيل المثال، كان مسجد أرك في مدينة طهران من المساجد التي أثارت حساسية النظام بسبب الخطب التوعوية لحجة الإسلام آية الله "فلسفي"، الذي حاول النظام اغتياله للسيطرة على المسجد.
وعلى الرغم من فشل هذا الاغتيال، إلا أنه أصبح ذريعة لإغلاق المسجد. ويوضح تقرير السافاك أن إغلاق مسجد أرك تم بحجة "زيارة عدد قليل من الناس لبيت الخطيب آية الله "فلسفي" وضرب خادمه"، لم يقتنع الناس وعلماء الدين بمقولة النظام عن مسببات إغلاق المسجد، فهم كانوا على دراية برغبته ومخططاته الرامية لإغلاق المسجد وعلى أنه يتحين الفرص أو يخلقها أحياناً ليقدم مبررات لأعماله . وقد ورد في التقرير نفسه: "كان العديد من علماء الدين يتحدثون في المجالس الخاصة عن نية الحكومة القضاء على دور المسجد عبر إيقاف مراسم الوعظ فيها وإقفالها الواحد تلو الأخر، تمهيداً لإيقاف إقامة الصلاة وزيادة عدد البهائيين في البلد."
الاعتقالات.. سياسة النظام لتحييد دور المسجد
كذلك اعتمد النظام البهلوي في سبيل القضاء على حركة المسجد الفعالة في دعم الثورة والثوار، اعتمد على اعتقال السافاك للنشطاء الذين يرتادون المساجد ويتخذونها منطلقاً لأعمالهم الثورية، ومما جاء في نشرة السافاك الخاصة والسرية بتاريخ 1967 م والتي حملت عنوان "اعتقال 12 متعصباً دينياً مؤيداً للإمام الخميني(قدس)" تثبت هذا الادعاء. ضم التقرير السري ست صفحات، يظهر فيها كيف قام عملاء السافاك بتعقب ومطاردة واعتقال و"تأديب" -والتي تضمنت جميع أنواع العقوبات والحرمان لأنصار الإمام الخميني (قدس)؛ هذا من ناحية ومن ناحيةٍ أخرى، فإن ذلك يدل على حقيقة لا يمكن إنكارها أن المسجد كان قاعدة النضال العام والخاص ضد النظام البهلوي. وجاء في النشرة: "عقدت مجموعة من الشباب المتعصبين الدينيين المؤيدين للإمام الخميني لقاءات تحت ستار الدين، بينما كانوا يعلقون على الأحداث السياسية اليوم، يتخذون قرارات في مجال تحريض الرأي العام ضد الوضع الراهن في البلاد، وتحريف إجراءات الحكومة الإصلاحية، وتشجيع الناس على طاعة علماء الدين، والمعارضة، وخاصة الإمام الخميني، حتى يقوموا بالتنفيذ في حالة نجاح خططهم".
ووفق هذا التقرير يمكن تصنيف أهداف هذه المجموعة من المناضلين إلى ثلاثة أجزاء: الهدف الأول لهذه المجموعة التي عقدت اجتماعاتها الأسبوعية "في بعض مساجد مدينة طهران ومنها مسجد الجامع ومسجد موسى بن جعفر"(ع) ومع الشيخ غلام حسين جعفري – إمام جمعة المسجد الجامع -وربما كانوا على صلة مع آية الله "ميلاني" في مدينة مشهد المقدسة – كان عملها يتمحور حو تحليل الوضع السائد وتوعية الناس، وهو ما ورد في هذه النشرة على أنه "تحريض الرأي العام ضد الوضع الحالي في البلد". أمّا الهدف الثاني فكان التحقيق وإظهار طبيعة الإجراءات الإصلاحية التي اتخذتها الحكومة للشعب، والتي ورد ذكرها في النشرة السابقة على أنها "تشويه صورة إجراءات الحكومة الإصلاحية"، والهدف الثالث للمجموعة، والذي كان مهماً وأساسياً ألا وهو تشجيع الناس على طاعة علماء الدين في محاربة النظام ومحاولة إعادة الإمام الخميني(قدس) إلى البلاد كقائد رئيسي للنضال وفي النشرة، تم ذكر بعض أنشطة هذه المجموعة في أماكن مختلفة.
لذا من أجل منع هذا النوع من الأنشطة ومحاولة كشفها، سرعان ما بدأ السافاك في اعتقال و"تأديب" جميع أعضاء المجموعة على حد قوله. فقد جاء في تقرير السافاك المفصل عن هذه المجموعة: "بالنظر إلى أن استمرار أنشطة هذه المجموعة غير الملائم، ، تم اعتقال سبعة أعضاء من هذه المجموعة أولاً وأثناء التحقيق المعتاد معهم، تم اعتقال خمسة أخرين بسبب تنفيذهم أعمالاً ضد المصالح العليا للبلاد".
التجسسس على المساجد والثوار
شكل إرسال القوات بشكل ٍ مباشر أو بطريقة مستترة ومخفية إلى المساجد طريقة أخرى للسافاك للسيطرة على الأنشطة الثورية في المساجد. فأرسل السافاك عملائه بشكلٍ سري للمساجد لمراقبة الأنشطة المقامة فيها ، ومراقبة الحضور وإعداد تقارير عن الأنشطة التي يتم تنفيذها، وكذلك إثارة الفتن وتحريض الناس في المساجد عبر استخدام عبارات استفزازية ومؤذية " بشتى الطرق وكذلك رفع الأصوات وتعطيل نظم الاجتماع ومنع الخطب.
بالإضافة إلى ذلك، عندما تكون هناك إمكانية لإجراء مظاهرة بعد إلقاء خطاب أو حداد أو مراسم عزاء أو أي احتفال آخر، يقوم النظام بإغلاق المسجد الذي كان ينظم الحفل أو إرسال قوات الأمن وتطبيق القانون إلى المكان للسيطرة على الأجواء. على سبيل المثال، أمرت المديرية العامة الثالثة للسافاك قواتها بالتالي: "من أجل تحييد الاستفزازات والأنشطة الضارة المحتملة للعناصر المنحرفة والمشاغبين ومنع أي أعمال شغب في مسجد أرك أثناء مراسم الفاتحة لأحد المنتمين إلى الجبهة الوطنية يجب إرسال مائة مظلي وحارس مع التدريب اللازم للمكان وإبلاغ النتيجة إلى المكتب العام." كما تظهر المراسلات بين شرطة مدينة إصفهان وقيادة مركز المدفعية في هذه المدينة أنه في يوم عاشوراء عام 1964م استعانت قوات شرطة أصفهان، بأحد عشر ضابطاً من مركز المدفعية لمنع إحياء مراسم عاشوراء.
كانت محاولة إيجاد النفوذ والتدخل في إدارة المساجد وتعيين الأوصياء عليها من الإجراءات الأخرى للنظام البهلوي للسيطرة على المساجد ومنع أنشطة المناضلين الدينيين ضد النظام. بعد إغلاق مساجد أرك وهدايت والجواد وحسينية إرشاد، حاول عملاء النظام عزل أمناء ومدراء ومجلس أمناء هذه المساجد والحسينيات. فلقد عد النظام إغلاق الأماكن المروجة للأنشطة ضد النظام البهلوي، في غاية الأهمية للنظام لدرجة أن قضيتها نوقشت مباشرةً مع الشاه. وفي هذه الحالة، تواصلت إدارة شرطة الدولة مع هيئة الأوقاف، ومما قالته لها:" منذ فترة، أصبحت حسينية إرشاد ومساجد هدايت والجواد مراكزاً لأنشطة العناصر الخبيثة، والعناصر التي لها تاريخ من الأنشطة الضارة ضد الأمن، وولاءها للمصالح الوطنية مشكوك فيه، هذه المراكز الثلاثة، يتم استخدامها للدعاية ضد المصالح الوطنية وتحريض الناس، وللأسف، فإن أمناء هذه المراكز وإمامها ومسؤوليها، الذين لديهم أحيانا سجلات سلبية، لا يتخذون إجراءات فعالة في مجال تنظيف البيئات المذكورة من العناصر غير الصالحة".
تسليم المساجد لمنظمة الأوقاف
في الجزء الأخير من هذه الرسالة، يُخبر ضباط الشرطة الشاه عن اقتراحهم: "اتخذوا الإجراء المناسب لإبعاد أمناء ومسؤولي هذه المراكز وتعيين أشخاص مؤهلين بدلاً منهم". وافق الشاه على الاقتراح المذكور وعهد بتنفيذ الخطة إلى منظمة الأوقاف من قبل شرطة المدينة في البلاد. استدعى تنفيذ الخطة تدخل اللجنة المشتركة لمكافحة التخريب للإشراف المباشر على أنشطة وأعمال مساجد هدايت والجواد وحسينية إرشاد". وفي هذا السياق، أبلغت اللجنة المشتركة لمكافحة التخريب قائد شرطة طهران أنه:" تم منع نشاط مسجدي هدايت والجواد وحسينية إرشاد، التي كانت أفعالهما ضد مصالح الوطن، حتى تكون أنشطتهم بالتفاوض مع مسؤولي المساجد والحسينية المذكورة أعلاه، منسجمة مع مصالح الوطن في المستقبل.. لذلك، وفقاً للاتفاقيات التي تم التوصل إليها مع أولياء الأمور والهيئة التأسيسية للمساجد المذكورة والحسينية، من الآن فصاعداً، ستكون جميع القضايا المتعلقة بهذه المؤسسات الدينية الثلاثة تحت الإشراف المباشر لمنظمة الأوقاف، وستقوم الأوقاف بالإشراف المباشر على الأنشطة فيها. وبذلك استلمت منظمة الأوقاف ملكية وإدارة المراكز.