دور علماء الدين ومساهمتهم الإنسانية والاجتماعية
المدعي العام الأول للثورة الإسلامية آية الله قدوسي نموذجاً
الوفاق / وكالات - لأعوامٍ عديدة وفي مختلف الظروف والتحدّيات، كان علماءُ الدِّين مقصدَ المؤمنين وملجأَ المستضعفين، فهم أبناءُ قومِهم وإخوانُهم، نفروا طلبًا للعلم، وتحمّلوا أمانةَ نقل الرسالةِ الإلهية، وتبليغِ معارفِ الدِّين وأحكامِه ومبادئه...
وكانت من وظائفهم الأساسية المساهمةُ في الحفاظِ على الأمن الاجتماعي، فلو قُدِّر لدراسةٍ اجتماعيةٍ، أو أنثروبولوجيةٍ موضوعية أن تدرس المجتمعات الدِّينية، وتقيس دور شبكة علماء الدِّين المنتشرين فيها، لوجدنا أنَّ العلماء ورسالتَهم يساهمون فعلًا وبمقدارٍ كبيرٍ في الحفاظ على أمن المجتمع وخفض مستويات الجريمة والنزاعات والفقر، حتى في مواضعَ يعجزُ فيها القانونُ والعرفُ والمؤسسات المدنية.
فهم يتصدون يوميًّا في بيوتهم ومساجدهم لحلِّ الخلافات الأسرية والعائلية، وحفظ البيوت من التفكّك والخراب، ويتدخلون في النزاعات الكبيرة التي قد تمتدُّ لتحصدَ أرواحًا أو توجد توتراتٍ تستمرُّ لأجيال.
ونجد محور عمل علماء الدِّين في مساعدة الفقراء والمساكين وتحقيق مقدارٍ من العدالة المعيشية بين النّاس، سواء كان ذلك مباشرةً في بلداتِهم ومحيطِهم، أو عبر تأسيس وإدارة جمعياتٍ خيريةٍ دينية، بل وعبر دعوتهم المؤمنين المحسنين للمساعدة والإنفاق والتكافل.
يُذكر أن مؤسِّس الحوزة العلمية في مدينة قم المقدّسة الشيخ الحائري قام في بداية مشروعه الحوزوي ببناء مستوصفٍ للرعاية الصحية لا يزالُ إلى اليوم موجودًا على باب الحوزة الفيضية قرب مقام السيدة المعصومة؛ ذلك لاستشعارِه واجبَ خدمةِ الناس والمساهمة في تحقيق أمنهم وراحتهم، وعدم انفكاكِ هذه الوظيفة عن هوية الحوزة. كذلك ما قام به قديمًا السيد محسن الأمين من خدماتٍ اجتماعيةٍ وتربويةٍ -خصوصًا في سوريا- رغم ضعف الإمكانات وخطورة المرحلة في ذلك الوقت، ولا يزال هذا النوع من الخدمات من مساعي علماء الدِّين أينما حلّوا.
تدركُ بعض الحكومات جيدًا أهميةَ هذه الوظائف وحيويتَها، وحاجةَ المجتمع والدولة إليها، لذلك تقوم بالاستفادة من علماء الدِّين والأماكن الدِّينية في سبيل ترويج القيم الضرورية والحدِّ من الجرائم والنزاعات الاجتماعية. في المقابل نجدُ علماء الدِّين في مجتمعاتِنا يتطوّعون في الخفاء ويستهلكون طاقاتِهم وأوقاتِهم في سبيل خدمة النّاس وإصلاح المجتمع، لذلك كانوا بحقٍّ ضبّاطَ الأمن الاجتماعي المجهولين.
في هذه المقالة سنتحدث عن الدور الإنساني والمجتمعي لعلماء الدين عبر الإطلاع على تجربة النائب العام للثورة الاسلامية آية الله قدوسي الذي استشهد على يد زمرة المنافقين في الخامس من شهر أيلول / سبتمبر لعام 1981 م، وهو كان أحد المسؤولين الذين استطاعوا ترك سجل مميز في العلاقة مع الشعب والمجتمع بمختلف أطيافه، والثقة في الإنفاق من خزانة بيت المسلمين، والعدالة، والجدية في العمل.
الاهتمام بالحفاظ على بيت المال
من سمات سلوك الشهيد قدوسي حرصه الخاص واهتمامه بتجنب إهدار بيت المال. أثناء إدارة مدرسة "حقاني"، حاول منع فرض أي نفقات إضافية على ميزانية المدرسة. لقد استفاد إلى أقصى حد من كل قلم وورقة وكتب ملاحظات مؤقتة بقلم رصاص حتى يتمكن من محوها واستخدام الورق مرةً أخرى. في المساء وحتى في الليل، إذا لم يكن يكتب ويتحدث إلى شخص ما، فإنه يمتنع عن إشعال الأنوار واستهلاك الكهرباء، وعندما تكون المدرسة مجهزة بنظام تدفئة، فإنه يمتنع عن فتح التدفئة في غرفته.
حجة الإسلام والمسلمين، المرحوم روح الله حسينيان، في إشارة إلى تشدد الشهيد قدوسي في استخدام لأموال ومخصصات بيت المال، يقول: "في ذلك الوقت، كانت النفقات الإجمالية لمكاتب النيابة العامة في جميع أنحاء البلاد، على سبيل المثال، حوالي مليون وأربعمائة ألف تومان. وفي الواقع المبلغ كان أحيانا مليون و425 ألف وثلاثة ريالات، عندما ذهبت إلى البنك لتحويل هذه الأموال إلى حساب المدن، قالوا إن الريالات الثلاثة التي تكتبها صعبة جداً علينا إدراجها. فقلت للسيد قدوسي، سيدي، هل تسمح لنا بالقيام بذلك مباشرة؟ فأجابني النفي، فسألته لماذا؟ قال إننا إذا أعطيناهم الكثير، فنحن مسؤولون، وإذا أعطينا القليل جداً، فإننا لا نزال مسؤولين أمام هؤلاء الفقراء الذين يتعين عليهم الدفع من جيوبهم الخاصة. لذا يجب عليك دفع المبلغ نفسه الموجود في الفواتير ".
في حياته الشخصية، كان الشهيد القدوسي حريصاً على تجنب أي ترف وإهدار، ففي فترة بداية تسلمه منصب النيابة العامة للثورة، لم يُطالب مطلقاً بأي حقوق لنفسه ولم يستخدم التسهيلات والمزايا المالية التي كانت مخصصةً له. لقد كان حريصاً على عدم خلط ممتلكاته الشخصية بالممتلكات العامة. عندما تم تعيينه في منصب المدعي العام، ولعدم امتلاكه شقة للسكن في العاصمة طهران، استأجر شقة من أحد علماء الدين ورفض العيش في منازل تمت مصادرتها وفق اقتراح أصدقاؤه.
النظام والصرامة
كانت صفات النظام والصرامة من سمات الشهيد قدوسي. ووفق أصدقائه ومعارفه: "كان معروفاً بيننا جميعاً بالانتظام والعزم، ولهذا السبب اعتبرناه مديراً، وأوكلت إليه الأعمال التي كانت بحاجة إلى إدارة حازمة في تلك الأيام. لهذا السبب، جعلوه مسؤولاً عن تنفيذ المحاكمات ذلك الوقت. في الأيام الأولى للثورة، التي كانت شديدة الفوضى، كان أول المسؤولين عن الأسرى الذين اعتقلهم النظام السابق، وتم اختياره لإحلال النظام هناك ".يقول آية الله ميانجي عن هذا الموضوع : "من سماته أنه كان منظماً للغاية، فكر في العمل الذي عُرض عليه أولاً، وعندما قبله، كان مُلزماً أن يكون منتظماً في هذا العمل"، وبإشرافه الدقيق على تنفيذ الأعمال، تمكن في فترة وجيزة من إزالة التناقضات والمخالفات التي كانت موجودة على مستوى النيابة العامة والمحاكم الثورية. رأى الشهيد قدوسي أن أحد أهم عوامل الهيمنة الانتهازية لليبراليين هو ضعفنا في النظام والتشكيلات.
العدالة
كان السعي لتحقيق العدالة سمةً بارزةً في سلوك الشهيد قدوسي الأخلاقي. حاول عدم الانحراف عن محور العدل، سواء في الفترة التي كان مسؤولاً فيها عن إدارة مدرسة "حقاني" أو في فترة فترة تعيينه مدعياً عاماً للثورة. لم يتجاوز حدود أحكام الشريعة وشدد مرات عديدة على أن هذه هي الأساس لتطبيق العدالة الإسلامية، وإذا لم يتم تنفيذها، فسيبقى اسم الحكومة الإسلامية فقط.
فهو يعتبر الشهيد قدوسي أن حماية ونصرة المظلوم والثوري لا يمكن النجاح فيها إلا حيث أجاز الإسلام. في الوقت نفسه، لم يكن يرضخ للتوقعات والنصائح المعارضة لأرائه من الآخرين، في وقت من الأوقات، غضب على المجموعة البحثية لمؤسسة المستضعفين بسبب معاملتهم وتدخلهم غير القانونيين، وفي وقتٍ من الأوقات عارض مطالب "بني صدر" المتكررة بمنع إعدام "فروخ رو بارسا"، وكان مسؤولاً عن القضاء على كل شخص كان لديه أقل قدر من الثروة، فقد أوقف بشجاعة وحزم الاعتقالات التعسفية والمصادرة والاعتقالات، بل وأصدر أوامر بإخراجهم.
ونظراً لمّا أولاه من اهتمام برعاية المسجونين ومعالجة قضايا السجناء، فعند سفره إلى إحدى المدن كان من خططه زيارة سجن تلك المدينة، وحاول التعامل مع بعض السجناء بنفسه أو عبر أشخاص ثقة، لئلا تُنتهك حقوق المظلوم. لطالما شدد على أن السجن في الجمهورية الإسلامية يجب أن يكون مكاناً للتربية والتوبة، وقبل كل شيء، فإن معاملة المسؤولين القضائيين هي التي توفر الأساس لعودة السجين إلى المجتمع.
الجدية في العمل
إن الصرامة والجدية في العمل من المكونات السلوكية الأخرى للشهيد قدوسي. ووفق آية الله خزعلي: "تابع العمل الذي أحبه من كل قلبه ولم يستسلم حتى وصل إلى الهدف. لقد استخدم جميع التسهيلات، واستغل كل التفاصيل والدقائق، وكان نادراً يُشاهد في التجمعات الاجتماعية والحزبية. يقول أحد طلابه: "كان الشهيد قدوسي مجتهداً وحازماً، وكان هناك الكثير ممن تحدثوا عنه بالسوء بسبب هذا، أو تركوه وأحياناً حاربه بعضهم حتى يخفوا ضعفهم عبر تقويض شخصية عظيمة مثله غير مدركين لحقيقة أنه كان مصداقاً لـلأية "وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ" وليس متعطشاً للسلطة ومأسوراً لهوى الروح في المواجهة أو المساومة.
ومن السمات البارزة الأخرى للشهيد قدوسي الحسم في اتخاذ القرار والشجاعة والسرعة في التنفيذ، فقد كان يملك معايير واضحة يسير عليها وفق الأسس الإسلامية والاجتماعية، كان حريصاً جداً في اتخاذ القرارات، وفي النهاية، نفذ كل ما قرره بقوة، ولم يكن لديه منفعة أو خوف يعيقان قراراته، بالطبع، إذا أدرك شيئاً خاطئاً في نفسه، فيقبله بسرعة وسهولة ويسعى لتغييره ، ولم يفكر أبداً في أن تصحيحه يلحق الضرر بشخصيته.
الاحترام والإنسانية
ومن السمات الفريدة للشهيد قدوسي شعبيته، لا سيّما في فترة توليه منصب المدعي العام للثورة، إذ أكد كل من تعامل معه على هذه الصفة. في تعامله مع العملاء، اعتبر نفسه ملزماً بمراعاة الآداب والعادات الإسلامية، حتى لو واجه سلوكاً مخالفا للإسلام أو مهيناً من الطرف الآخر.
ووفق السيد خسروشاهي، فإن الشهيد قدوسي كان يجلس خلف الطاولة في مكتب النيابة، وكان المراجعين يجلسون على الكراسي حول الغرفة ... فيما بعد، ترك الطاولة ووضع بطانية في زاوية غرفته وجلس عليها مسنداً ضهره على الحائط،- مثل حوزة قم -وكان يقوم بمتابعة الأمور وحلها". يعتقد الشهيد قدوسي أنه في هذه الحالات يختبر الشخص نفسه ويدرك مدى قدرته على التحكم في غضبه، لذلك يجب التسامح مع الأخرين وحتى لو أهانه الطرف الآخر؛ فإنه يعاملهم بالصبر والتسامح والأخلاق ما يجعلهم يثقوا ويتفائلوا بالثورة، ويعلمهم الأخلاق الإسلامية، وليكون نموذجاً للإسلام وأخلاق الرسول(ص) عندهم.