هبة أبو ندى.. المدينة كلّها تستشهد
يامن نوباني
كاتب فلسطيني
استشهدت هبة كمال أبو ندى، 32 عاماً، مساء الجمعة، 20 أكتوبر 2023، خلال قصف همجيّ قامت به طائرات الاستعمار الإسرائيليّ على منازل المواطنين، في حيّ المنارة بمدينة خانيونس. هبة لاجئة من قرية بيت جرجا المهجّرة في عام 1948، والواقعة على بُعْد 15 كم شمال شرق مدينة غزّة.
فازت روايتها الوحيدة "الأوكسجين ليس للموتى"، الصادرة بطبعتها الأولى عن "منشورات دائرة الثقافة"، الشارقة، وبطبعتها الثانية عن "دار ديوان" في الكويت، بالمركز الثاني في "جائزة الشارقة للإبداع العربيّ"، الدورة العشرون عام 2017. وحصدت هبة المركز الأوّل على مستوى فلسطين في "مسابقة ناهض الريّس للقصّة القصيرة"، والمركز الرابع في مسابقة "شاعر غزّة"، ولها قصائد في ثلاثة دواوين شعريّة مشتركة: "العصف المأكول" و "شاعر غزّة" و "أبجديّة القيد الأخير".
تحمل هبة ثلاث شهادات علميّة: ماجستير في "التغذية السريريّة" من "جامعة الأزهر" في غزّة، وبكالوريوس "الكيمياء الحيويّة" من "الجامعة الإسلاميّة"، ودبلوم "التأهيل التربويّ" من "الجامعة الإسلاميّة". عملت حتّى استشهادها في «مركز رُسُل» في قسم مختصّ بالأطفال الأذكياء والمبدعين في مجال العلوم. وبالنيابة عن الشاعرة الشهيدة هبة أبو ندى، نجمع كلماتها عن الشهداء، حرفاً حرفاً، فلا أُسْقِط من أرض معركتها الشخصيّة مع الاستعمار كلمة. هبة الّتي كانت تقتنص الشعور الوطنيّ بعين مطارد ملثّم، يعرف متى يظهر، ويطلق لجام الكلمات
وصهيلها.
ولأنّه، لا قول يعلو فوق قول الشهداء؛ أبدأ بقولك يا هبة:
"اليوم ندفن شهداءنا، وغداً ندفنهم، اليوم للحزن وغداً للثأر.
يبدأ الشهداء دائماً ولا ينتهون، الشهداء كلّهم بدايات.
الشهادة هي حالة إلهام معدية للغاية، فعندما يستشهد أحدهم، تُلْهَم أمّه خطبة عصماء لحظة تشييعه، ويُلْهَم والده ببيان قدسيّ في الإباء والصبر، ونُلْهَم نحن للكتابة، ويُلْهَم البقيّة الثورة".
وأنت تتنقّلين يا هبة، بين شهداء الوطن، حارات قرانا وشوارع مدننا وأزقّة مخيّماتنا؛ لتكتبي الثورة؛ لتبقى الثورة. تحرثين غزّة لغرس أسماء الشهداء عميقاً، تعزّين تامر الكيلاني وإبراهيم النابلسيّ في حارة الياسمينة، تلتفّي إلى مخيّم شعفاط لتبرقي تحيّاتك لروح عديّ التميمي، فرِحة بانطلاق «كتيبة طولكرم»، وتأخذين جنين بأكملها إلى القصيدة الثوريّة.
وأنتِ القائلة: "الثورة نائمة، بارك الله مَنْ أيقظها."
ألم تتنبّئي، يا هبة، في العشرين من حزيران الماضي، بقتلى أكثر في صفوف العدوّ، يوم قلتِ قبل أربعة أشهر بالتمام: "كلّما وضع التاريخ وضعيّة الغفوة، أيقظه صوت الرصاص، خمسة، واحد، اليوم أربعة! غداً لا نعلم... قلنا لكم اخرجوا منها ليست لكم، ونحن لا ننسى."
وأخذتِنا، يا هبة، إلى ذكريات «مخيّم جنين»، وقصصه الملحميّة، مقاتليه الّذين يتوالدون، ولا ينفدون، حين كتبتِ: "الّذين وُلِدوا في اجتياح جنين 2002 رضعوا الثأر تحت القنابل والغارات، الآن عاد الجيش لأجلهم يتساءل: كيف تركناهم أحياء؟
إنّها دورة الثأر الفلسطينيّ المغلقة، حيث يعود الشهداء ولادات متكرّرة وثوّاراً بأسماء جديدة. تتصدّق جنين عن بقيّة المدن بالشهداء، يدها ممتلئة والأرض محتاجة". كلّ مشتبك في الضفّة، كان بطريقة ما، قريبك؛ شخصاً تعرفينه جيّداً، فتودّعينه:
"قالت نجمة فيه:
"شهيد الأرض، ما أحلاه!
يا الله! هل يوماً سأشبهه؟".
وتودّعين المزيد من المشتبكين، الّذين لا ينتهون، والّذين صرتِ منهم، شهيدة:
"تحت زخّات/ الرصاصِ/ وفي سماكَ/ وفي عُلاكْ/ إنّ غاية كلّ حُرِّ/ أن يكونَ/ على اشتباك."
كنت تنسجين لنا من الحرب معنى، ومشهد أن يكون لك اسم، أن تكون لك حياة، أن يكون لك بيت: "هل ترى تلك السحابة الرماديّة بالأعلى؟ قبل ساعات كانت عمود دخان، وبالأمس كانت بيتنا"، طفل من غزّة يقول.
إنّ ما كتبته يوم السابع من نيسان الفائت: "ثأرنا مبصر وخرائطهم عمياء". حدث كلّيّاً في السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر، يوم كان «طوفان الأقصى».
في الثالث عشر من أيّار الفائت، كنت تستشرفين استشهادك واستشهاد الآلاف: "نحن في غزّة مدنيّون، كلّنا مدنيّون وعزَّل مهما حاول الجميع تجنيدنا وتجييشنا وإظهارنا بصورة الأبطال المغاوير أدبيّاً وإعلامياً، لكن هذا لا ينفي الحقيقة الأولى أنّنا مدنيّون وضعفاء ومكشوفون أمام أرتال عسكريّة هائلة، بيوتنا عارية تحت أطنان من الصواريخ المسعورة، وأجسادنا هشّة وزجاجيّة في مواجهة القذائف المتوحّشة، ولا شيء يحمينا. نذكّر ونقول ونعيد: نحن مكشوفون أمام الصاروخ، ولن يحمينا الشعر
والغناء!"
وكنت تكتبين كيفيّة النجاة من الفقد؛ المواساة بين الأحياء أو الشهداء: لكثرة ما دعونا: "اللهمّ لا فاقدين ولا مفقودين"، صرنا نموت معاً عائلات كاملة، بحيث لا فاقد ولا مفقود بيننا. بوركنا، لقد اخترعنا للنجاة شكلاً جديداً، نموت كلّنا فننجو من مأساة الشعور بالفقد".
وها نحن نُفْجَع باستشهادك، أنتِ الّتي كنت تعرفين تماماً معنى الشهادة: كلّما سمعتُ صوت قصف تساءلت: أيّ طفل سيُيَتَّم؟ وأيّ امرأة ستُرَمَّل؟ ومَنْ الأب الّذي سيبكي أبناءه؟ وكيف شكلُ البيت الّذي سيُدَمَّر؟ ما القصّة المأساويّة الّتي ستأتي بعد هذا الصوت؛ صوت الموت القادم من بعيد كلّ ساعة؟"
رحلتِ وقلبك على الأقصى، وما حدتِ يوماً، بوصلة قلمك:
كلّ الـحـروب فــداء غـيـركِ بـدعة
ولـغـيـرِ عـيـنيكِ الـمـعاركُ جـانـبيّة!