الحرب النفسية سلاحٌ اسرائيلي أفشلته المقاومة وانتصرت به
الوفاق /وكالات - تحظى الحرب النفسية لدى الحكومات على المستويات كافة بأهمية عظيمة، وتلقى الاهتمام والعناية والرعاية، وتقوم الدول بالتوظيف في سبيل الحرب النفسية كل الامكانات والمقدرات والموارد سواء البشرية أو المادية، بوصفها أخطر أسلحة الحرب فتكاً، وأشدها تأثيراً، وأكثرها خطراً، وأقلها تكلفة؛ الحرب النفسية تثير الفتن والقلاقل والصراعات في جبهة العدو الداخلية وقتل الروح المعنوية، كذلك كسر إرادة صمود العدو، وتدفعه الى الاستسلام، بعد كبح وعيه واندفاعه، وهي تعمل على سلبه قواه الرمزية الفاعلة، وتجعله يتقهقر بطريقة لا إرادية، مخلّفاً وراءه الخسائر الجسيمة.
الحرب النفسية بدأت مع العصابات الصهيونية
إن اهتمام "دولة الكيان المؤقت" بالحرب النفسية يعود إلى ما قبل قيام كيانها الغاصب وبالتحديد إلى البدايات الأولى للحركة الصهيونية التي أدركت أهمية الدعاية ودورها في تحقيق أهداف الصهيونية. فمنذ المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897، كانت انطلاقة الحرب النفسية التي بدأ يشنها الصهاينة حول العالم بهدف توطين أنفسهم في فلسطين، وتهجير سكّانها الأصليين منها، وقد لعبوا على وتر "اليهود المظلومين" كحجّةٍ إنسانية تبرِّر دخولهم الأراضي الفلسطينية، وقد حاول مؤسِّس الصهيونية "ثيودور هيرتزل" أن يبدأ حربه النفسية بتغطية الدعم الدولي له، حين قال في المؤتمر: “الصهيونية تسعى إلى إنشاء منزل للشعب اليهودي في فلسطين مؤمن بموجب القانون العام”.
وقد استفادت الحركة الصهيونية العالمية من أساليب الحرب النفسية التي استخدمت في الحرب العالمية الأولى والثانية، وقامت بتطويرها عبر الدعاية الصهيونية لترويج الوجود الصهيوني في أرض فلسطين"، وأساطيرها: "الحق التاريخي وأرض الميعاد"، و"أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" و"العداء للسامية" وغيرها من المقولات والأساطير. ونستنتج هنا أن الكيان المؤقت استخدم الكثير من السياسات الدعائية التي تقوم على صناعة وصياغة فبركات وتلفيقات وأضاليل ومزاعم وأكاذيب وأساطير يهودية تلمودية.
مع العلم أن إبداعية الدعاية الاسرائيلية، وقُدرتها الخلاقة على التأثير والفعل؛ لم يكن بأي شكل من الأشكال بسبب توافرها على قدرات وأسباب قوّة ذاتية فحسب؛ بل بسبب غياب إستراتيجية عربية دعائية دفاعية مضادة من شأنها مواجهة غريمتها، وتعطيل تأثيراتها، وإفساد خططها وبرامجها.".
وفى عصرنا الحالي تعددت أساليب الاحتلال الصهيوني في حروبه واجتياحاته المتكررة على الشعب الفلسطيني في غزة في كل هجماته العدوانية، بين الإشاعة، والتضليل الإعلامي، والصدمة النفسية، واستخدام العملاء، وكان يسعى دائماً إلى التأثير على الرأي العام الدولي، الذي سعى لإقناعه بضرورة حماية نفسه ومواطنيها من صواريخ وهجمات المقاومة، إلا أنه فشل في تحقيق أهدافه من الحرب النفسية، على الرغم من محاولاته الحثيثة والدائمة على إظهار نفسه بموقع الضحية والمدافع عن نفسه ومواطنيه مستخدماً التضليل الإعلامي من وسائل إعلام محلية وعالمية في هذا المجال وما شهدناه في عملية "طوفان الأقصى" من وسم المقاومة الفلسطينية بالإرهاب وتحميلها مسؤولية جرائم لم تحصل عبر الترويج لعمليات قتل الأطفال الصهاينة في المغتصبات الصهيونية، والذي لم يستطع العدو إثبات صحة ما يقوله.
إنجازات عسكرية ونفسية للمقاومة الفلسطينية
على الرغم من تعاظم الاستقواء الصهيوني ومحاولة استفراده بالفلسطينيين معركةً بعد أخرى، قفزة نوعية حققتها المقاومة الفلسطينية منذ عملية الجرف الصامد عام 2014. إذ تمكّنت من نشر الرواية الفلسطينية الحقيقية للأحداث، بعد تاريخ طويل من التضليل الإسرائيلي للرأي العام العالمي والسيطرة على وسائل الإعلام الأساسية إلا ما ندر. فبعد سنوات من النضال لأجيال متعاقبة، تمكّن الفلسطينيون من تطوير أساليبهم من خلال صنع المعادلات. وبدأت تتعاظم قدراتهم في الحرب النفسية على كافة المستويات، سواء على مستوى قيادات الفصائل، أو على مستوى الشعب الفلسطيني نفسه.
فالتمسك بالحق يعطي دفعًا لقوة نفسية هائلة، يترجمها الغزاويون عبر صمودهم وتصريحاتهم البليغة بالتمسك بالحق والأرض، ويترجمها المقدسيون بواسطة ابتساماتهم لدى اعتقالهم، وجرأتهم في مواجهة الصهاينة بالسلاح الأبيض، سواء كان رشقًا بالحجارة أو بالدهس. أو بالجرأة على استفزاز الإسرائيليين في حرم القدس الشريف، عبر الشعارات التي يرددونها، ويترجمها المقاومون بتعاظم قدراتهم العسكرية وعلى مستوى التخطيط. وفي غزة، معنويات الأطفال هي حكاية حرب نفسية فريدة، فهؤلاء يثبتون نكبةً بعد نكسة، أنّ ما تعوّل عليه إسرائيل من الانهزام النفسي للأجيال الجديدة، ليس إلا هزيمةً واضحة الملامح
للكيان الصهيوني بأكمله.
ترافقت هذه الحرب النفسية الفلسطينية مع الأهداف العسكرية، فلقد نجحت المقاومة الفلسطينية في تحقيق نتائج مميزة على الصعيد العسكري الذي أُتبع بنجاح على الصعيد النفسي، وعاين جمهور المقاومة هذه المواءمة بالنجاح بين المستويين في عملية "الجرف الصامد" عام 2014 ومن ثم في عملية "سيف القدس" 2021، والتمظهر الأبرز لذلك كان في عملية " طوفان الأقصى" 2023، فلأول مرة في التاريخ، يخرج المقاومون من السجن الكبير في غزة إلى أراضيهم المحتلة، ويتمكنون من شلّ الجيش الإسرائيلي، وأسر وقتل عدد كبير من الضباط والجنود. إنها صفعة تاريخية لن ينساها المستوطنين ولا الجنود ولا القادة، مهما فعلوا من تدمير في غزة، أو التهديد
بالاجتياح البري.
الحرب النفسية سلاح إسرائيلي تحطم بفعل ضربات المقاومة والوعي الشعبي
لقد أفشل الوعي الشعبي للمجتمع الفلسطيني ما يسعى له الاحتلال في حربه الهمجية على قطاع غزة، من كسر إرادة المقاومة لدى الشعب الفلسطيني، عبر معاقبة الحاضنة الاجتماعية للمقاومة، وإحداث شرخ في العلاقة بينهما. وذلك عبر محاولاته المستمرة الساعية إلى تهجير الفلسطينيين وإخلاء الأرض له، عبر ارتكاب الفظائع، ويستلهم في ذلك ما فعله من مجازر في الحروب السابقة، يصل صداها إلى بقية الشعب، فيغادر تجنباً لها ولكن وعى الشعب الفلسطيني خطط الاحتلال، ولم يعد يقبل أو يسمح بتكرار عملية تهجيره القسري، وهو يتنقل داخل غزة، ويرفض أي خروج من القطاع تحت أي مسمى، لمعرفته بالنتيجة التي عانها الفلسطينيون بالشتات منذ نكبة 1948، وتُصنف التهديدات العسكرية عالية السقف التي يطلقها الاحتلال والولايات المتحدة وحلفاؤهم ضمن الحرب النفسية، التي تدفع البعض إلى قبول ما يريد الاحتلال، أو تخفيض شروطه، ولكن المقاومة والشعب يحملون وعياً عالياً، جراء خبرة تراكمية في الصراع
مع هذا الاحتلال.
المفارقة في هذه العملية أن الشائعات التي يبثها الاحتلال في حروبه ضد قطاع غزة باتت غير مجدية مع سكان القطاع فهم باتوا على دراية بالحرب النفسية والشائعات أكثر من الاحتلال نفسه، وأصبحوا يتمتعون بالقدرة على كشف أساليب الحرب النفسية الإسرائيلية وأدواتها، نتيجة درجة الوعي التي وصلوا إليها وتفهمهم لأهداف الاحتلال من هذه الحرب وأنهم اعتادوا على مكره عبر الكثير من جولات العدوان السابقة التي جعلتهم أكثر صلابة ووعيًا وأكثر قدرة على اكتشاف ألاعيبه ومكره، ويرجع مبعث هذه الثقة الكبيرة في نفوس الفلسطينيين إلى الحصانة الذاتية التي اكتسبوها على مدار سنوات الاحتلال والحصار الطويلة، والتي أذاقهم خلالها الاحتلال صنوفًا متعددة من الآلام والمآسي والجرائم.
ثابتون في أرضنا .. لا نزوح ولا ترحيل
ترافق العدوان الصهيوني على غزة واعتماد استراتيجية الأرض المحروقة مع تكثيف استخدام أساليب الحرب النفسية على الفلسطينيين ورفع وتيرة استهداف المدنيين بالتزامن مع دعوات إعلامية صهيونية، وعبر رسائل صوتية، لأهل غزة للتوجه إلى جنوب القطاع، طالبةً منهم مغادرة منازلهم قبل قصفها.
مخطط التهجير ودعوات الرحيل هذه لاقت استنكاراً واسعاً في مواقع التواصل، ودفعت الكثير من المعلقين، حتى الناشطين الغربيين، إلى التساؤل: إلى أين يمكن أن يذهب أهل القطاع؟
ولكن الشعب الفلسطيني أعلن رفضه لتهديد قادة الاحتلال ودعوتهم له إلى ترك منازلهم والرحيل عنها إلى الجنوب أو إلى مصر. معلناً عدم تأثره بالحرب النفسية التي يشنها العدو الصهيوني عليه وأن دعواته هذه ما هي إلا تعبير عن إفلاس الاحتلال وفشله في تحقيق أيّ إنجاز أمام الصمود الأسطوري لشعبنا ومقاومته الباسلة فلقد أصبحت مشاهد الهجرة والنزوح في ذمة التاريخ الذي لن يتكرر، فالشعب الفلسطيني مغروس في أرضه ومتجذّر فيها، ولا يمكن اقتلاعه وتهجيره رغم العدوان وجرائم الحرب وسياسة الأرض المحروقة ضده.
تضامن عربي وعالمي مع الفلسطينيين
أُصيب الصهاينة ومناصريهم في العالم بصدمةٍ مروِّعة جرّاء رؤيتِهم ردودَ أفعال الشعوب العربيَّة والإسلاميَّة والعالمية أيضاً المُتضامنة مع أهلنا في غزَّة، ومدى الفرحة العارمة التي عمَّت أرجاءَ المعمورة، عقب اندلاع طوفان الأقصى، وإعلان ما حقَّقته المقاومة الفلسطينيّة من انتصارات؛ بل مُعجزات، في مُواجهة دولة الاحتلال، وكشفها عن هشاشة وضعف وعورات النّظام الإسرائيليّ، الذي طالما صدَّع رؤوسَنا بقوَّته التي لا تُقهر، واستعداداته التي لا تهزمُ، وقُبّته الحديدية، وسياجه الحدوديّ اللذين يوفّران له الأمن والأمان، ويحولان بينه وبين أصحاب الأرض والحقّ.
وكانت مشاركة الآلاف في مسيرات خرجت في العواصم العربية والإسلامية، بل وصل بعضها إلى الحدود المتاخمة لفلسطين المحتلة مطالبين بفتحها، ومنح الشعوب العربيّة الفرصة في النَّيل من عدوٍّ محتلّ مغتصب للأرض، ومدنِّس للمقدّسات، وناهبٍ للثروات، وقاتلٍ للأطفال والنساء، قد ولّدت حالةً من الفزع والخوف لدى دولة الاحتلال ومُؤيّديها، خشيةَ تصاعد الأمور، وانفلاتها وخروجها عن السيطرة من جانب السلطات في العالم العربيّ تحديدًا.
تفوق المقاومة في الحرب النفسية
ختاماً على الرغم من كل همجية العدو الصهيوني وكما لم يحصل من قبل، يتعرّف العالم اليوم على مظلومية الشعب الفلسطيني. ربما كان الزخم على مواقع التواصل أكبر لدى معركة "سيف القدس"خاصً في الدول الغربية الأكثر تضليلًا لشعوبها والتي تمارس التأطير والتعتيم الإعلامي لتظهر الكيان الإسرائيلي بمظهر الضحية. وعلى الرغم من القيود التي تفرضها منصات التواصل الإلكترونية، إلا أنه لم يعد ثمة حقيقة محجوبة، وأي تعاطف مع إسرائيل فهو اليوم بعد عملية " طوفان الأقصى" على مستوى الحكومات والأجهزة الرسمية، وليس على مستوى الشعوب. واقع جديد مليء بمقاطع الفيديو للأطفال الفلسطينيين أمام منازلهم المهدمة، وأخرى تظهر الحقائق التي تجري على أرض فلسطين.