قوة الحق.. فلسطين قضية حقّ لا جدال فيه
"الحقّ هو أمرٌ دائم. ما كان حقّاً يوماً يبقى حقّاً أبداً. أما القوة، فأمرٌ وقتيّ يتغيّر مع الظروف" (روسّو).
إذاً، مهما تقادمت الأيام، يبقى الحقّ حقاً والباطل باطلاً... أبداً، لا يصير الحقّ باطلاً، ولا الباطل حقّاً، مهما طال الزمن وتبدلت الظروف والأحوال.
قوة الحقّ منتصرة حتماً على حقِّ القوة.. فلسطين قضية حقّ لا جدال فيه. جميعنا يعرف ذلك، حتى المحتل في قرارة نفسه يعرف أنه محتل، مهما حاول ادعاء خلاف ذلك باحثاً عن حجج وذرائع تبرر احتلاله وتعطيه حقّاً في ما ليس من حقّه.
راهنَ الاحتلال الإسرائيلي على القوة المتّكلة على آلة عسكرية جرارة ونظام عالمي متواطئ، مثلما راهنَ على النسيان: غداً يموت الكبار وينسى الصغار. لكن الكبار لم يموتوا إلا وقد أرضعوا الصغار حليب الذاكرة والانتماء، حتى صار كل جيل أشد التصاقاً بذاكرته من الجيل الذي سبقه، فما شاهدناه (مثلاً) إبان حراك حي الشيخ جرّاح في القدس المحتلة أثبت بالفعل أن الذاكرة الفلسطينية حية لا تموت، والأهم أنها واحدة من البحر إلى النهر، فالحراك الذي كان آنذاك شبابياً في معظمه شمل كل الأرض الفلسطينية من القدس والضفة إلى الجليل والنقب، وصولاً إلى غزة المحررة التي لم تتوانَ يوماً عن الانخراط في المعركة.
هذا المشهد يتكرر كلما حزّت الحزّة وعلا الصوت طلباً للنجدة والتعبير عن رفض الاحتلال مهما طال وصال وجال. يوماً تلو آخر، يتضح أن جيل النسيان لم ولن يولد مهما بدا الأفق كالحاً أو مظلماً، فكيف الحال إذا كان هذا الأفق أكثر وضوحاً من أي وقت مضى، خصوصاً بعد المهانة المجلجلة التي تلقاها الاحتلال و"جيشه" في الأيام القليلة الماضية، والتي تؤكد حقيقة ثابتة وحتمية تاريخية: الاحتلال إلى زوال.
الذاكرة الفلسطينية الحيّة مكتوبة بالدم والدمع على مدى عقود من الزمن، فما من بيت فلسطيني يخلو من صورة شهيد، وما من أسرة لم تقدّم أسيراً أو جريحاً على درب الجلجلة التي لم تهزّ شعرة من رأس ما يسمّى بالمجتمع الدولي الذي يغمض عينيه ويصمّ أذنيه ويبتلع لسانه عندما يتعلق الأمر بالاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والفظائع التي يرتكبها بحق شعب يبذل الغالي والنفيس في سبيل حريته واستقلاله.
لم يترك الاحتلال الإسرائيلي وسيلة إلا واستخدمها كي يمحو الذاكرة الفلسطينية. مارس الاقتلاع والتهجير والهدم والتخريب، حتى المقابر لم تسلم منه، ولجأ إلى تزوير التاريخ وسرقة الموروث الفلسطيني من فولكلور وأزياء وموسيقى وأطعمة كي يُثبت حقّاً في بلاد ليست من حقه، واستعان بعملية تزوير الذاكرة وتزييف الوعي بآلة دعائية هائلة تشمل المعمورة برمتها، واستخدم السينما والتلفزيون والصحافة وكل الميديا المتاحة في أكبر عملية تضليل عرفها التاريخ. ورغم كل ذلك، لا تزال فلسطين قضية حق حية في ضمير كل حرّ في هذا العالم، ولا يزال أبناء فلسطين يتوارثون راية تحريرها جيلاً تلو جيل، ولا يترددون لحظة في بذل أرواحهم رخيصة على طريق حريتهم واستقلالهم، رغم خذلان الأقربين والأبعدين.
كثيرةٌ هي وهائلةٌ محاولات حذف فلسطين من الذاكرة. بعض الأقلام والأصوات صارت تعتبرها موضة قديمة، وترى في الكتابة عنها لغةً خشبية، لكن واقع الحال يمضي في الإتجاه المعاكس لما يتمنى هذا البعض ويرجو، فما إن تشهد فلسطين حدثاً استثنائياً ومفصلياً كالذي نتابعه هذه الأيام في محيط غزة وعلى أسوارها وبسواعد مقاوميها الأفذاذ، حتى نكتشف أن الوجدان العربي لا يزال ينبض على إيقاع فلسطين التي تحفظ بدماء بنيها ما تبقّى من ماءِ وجهِ أمّةٍ لو عرفت كيف تدرأ النكبة الفلسطينية لكانت قد تجنّبت نكبات لاحقة أصابتها من المحيط إلى الخليج الفارسي.
يحفظ الشهداء بدمائهم ذاكرة الحق والحقيقة، ويكتبون ملحمة عصية على الطمس والمحو والنسيان، فيما يحفظ الحبر ذكرى أولئك الشهداء، وخصوصاً متى ارتقى (الحبر) إلى مرتبة تليق بالقضية التي يكتبها، إذ إن الكتابة للوطن والحرية والشهادة تستلزم شروطاً جمالية وفنية وبلاغية أكثر من الكتابة لسواها، فمن غير الجائز أبداً أن نكتب للقضايا النبيلة العادلة ما لا يرتقي إلى مستوى نيلها وعدالتها وجمالها. نعم، جمالها. هل هناك أجمل من النبل والعدالة؟
لي إخوةٌ لا أعرفهم/ نبتوا مثلي على ضفةِ الألم/ لي أبناءُ الأرضِ المحتلة/ برهانُ الحقِّ.. شكلُ الحقيقة/ حُجَّةُ الأرضِ على السماء/ صَفعةُ القهرِ على خَدِّ الأمم/ صَيحةُ النهرِ في صمتِ اليابسة/ طَعنةُ الفجرِ في عُنقِ الظلام...