«طوفان الأقصى».. إرتقاء في الوعي المجتمعي و كسر لهيبة العدو
الوفاق/ وكالات - ما حُفر في وعينا من تاريخيّة الصراع العربيّ مع العدو الصهيوني، هو مبادرته بالهجوم والعدوان تحت عنوان ما يُعرف في العقيدة الحربيّة الإسرائيليّة بـ"الضربة الاستباقيّة"، وذلك منذ حرب النكبة عام 1948 وصولًا إلى الحروب العدوانيّة على غزّة في العقدين الأخيرين، باستثناء حرب تشرين الأوّل/ أكتوبر في سنة 1973، إذ بادر الجيش المصريّ في حينه إلى هجوم الحرب في صبيحة يوم الغفران اليهوديّ.
لذا لم تُعد معركة "طوفان الأقصى" الهجومية التي نفذتها فصائل المقاومة في غزّة على المستوطنات الصهيونية في غلاف القطاع مجرّد قلبًا لمعادلة الصراع بمعناه العسكريّ، بقدر ما كان تغييراً جوهرياً في الوعي المجتمعي الفلسطيني والعربي. إذ ما تزال إسرائيل بكافّة أجهزتها وعدّتها وعتادها ترزح تحت صدمة هجوم لم تتنبّه له أدقّ أجهزتها الاستخباراتيّة، ولم يتوقّعه كبار المسؤولين والخبراء العسكريّين؛ اقتحام مباغت لعشرات المستوطنات والمواقع، مئات القتلى من بينهم ضبّاط برتب عسكريّة عالية وجنود، وعشرات الرهائن ومئات المفقودين حتّى الساعة.
على مر تاريخ الصراع العربي الصهيوني كانت سياسة كيّ الوعي للمجتمع العربي والتي كان من أهمّ مفرداتها أنّ الجندي الصهيوني لا يُقهر وأنّ آلته العسكرية وأجهزته الأمنية والاستخباراتية عصيةً على الكسر، ورغم أنّ المقاومة الاسلامية في لبنان استطاعت كسر هذه السردية في محطات عديدة ورسمت معادلات ردعية حفرت في الوعي الصهيوني، رغم ذلك كله فقد بقى الكيان الغاصب يمارس أقسى أنواع التنكيل بالشعب الفلسطيني فضلاً عن قيامه بنسج العلاقات مع دول في سياق تشريع التطبيع معه ككيانٍ طبيعي في المنطقة مقدّماً نفسه على أنه كيان ضامن لأمن المنطقة وعروش حكامها متسلحاً وفق زعمه بجيشٍ يمتلك الكفاءة والمهارة والتكنولوجيا المتطوّرة وأجهزة استخبارات نخبوية يمكن الرهان عليها إلى أن جاء الطوفان الذي قلب الصورة.
تحطيم صورة الأسطورة
100 قتيل وأكثر من ثلاثة آلاف مصاب وفق الإعلام العبري سقطوا في معركة "طوفان الأقصى"، والعدد ما يزال في ازدياد، أعداد غير محددة من الأسرى، لم يسبق لإسرائيل أن عاينت مثلها منذ ٧٥ سنة. هي صدمة صهيونية شملت كل مكونات المجتمع الصهيوني من سياسيين ومجتمع ووسائل إعلام اعتبرت أن ما حصل شكل مفاجأةً هائلة:" لقد نجحوا في مفاجأتنا.. من البر والبحر والجو، "حماس" فاجأت الجيش الإسرائيلي مفاجأة ً كبيرة".
يقول الصحافي الإسرائيلي "بن كسبيت": "بعد 50 عاماً ويوم واحد من حرب يوم الغفران، تفاجأت "إسرائيل" وجيشها لكن هذه المرة، ليس من الدول العربية، ولكن من حماس.. هذه هي الحرب".
أمّا الكاتب في صحيفة "هآرتس" الصهيونية يوسي ميلمان فقال: "كما حدث في يوم الغفران، فوجئت "إسرائيل". ثم أجرت حماس، مثل مصر، مناورة وعبر مقاتلوها الحدود تحت رعاية المناورة. رد فعل "إسرائيل" وتنظيمها بطيء، الجيش الإسرائيلي ليس لديه معلومات كافية ورسائله حتى بعد مرور أكثر من 3 ساعات على بدء الحرب غامضة. تخيّلوا كيف تمكّنت "حماس" من المفاجأة ماذا سيحدث لو اخترق حزب الله المستوطنات وأطلق الصواريخ".
لا سيطرة ولا أمان بعد اليوم
إنّ المباغتة الاستراتيجية التي قامت بها المقاومة الفلسطينية عبر " طوفان الأقصى" ضربت وعي الصهاينة وكيانهم، وتركت تداعيات عدة على الوعي المجتمعي الصهيوني ومن أهمها الشعور الذي تجمع لدى الصهاينة بأن فلسطين المحتلة لم تعُد ملاذاً أمناً لهم ولم تعد أرضهم الموعودة كما كانوا يحلمون. فقد بات الخطر يحيط بصهاينة الداخل من كل جانب بعدما نجح مجاهدو القسام في الحفر عميقاً في وعي ولا وعي المجتمع الصهيوني وقادته.
والحقيقة الصعبة التي أظهرتها معركة "طوفان الأقصى" والتي ستحفر عميقاً في الوجدان الصهيوني وحتى لدى الشعوب المقاومة لوجوده هي انكشاف قدرات أجهزة المخابرات الإسرائيلية التي بانت هزيلة رغم امتلاكها للجو والأقمار الاصطناعية والتكنولوجيا فضلاً عن عملها الدؤوب في زرع خلايا تجسّس على المقاومة التي استطاعت تحقيق انتشار سريع وسلس في غفلة عن عيون وإمكانات واستخبارات العدو الصهيوني. لقد وجهت المقاومة بعملها هذا ضربة قاصمة للردع الإسرائيلي، وكشفت عن الثغرات الهائلة في الاستخبارات الإسرائيلية، والتي لم يتوقع الإسرائيلي حدوثها. إنّ هذين الفشلين الهائلين - ليس فقط في الأفراد والمعدات والتحليل، ولكن أيضًا في التخطيط والتوقع والاستعداد، وبالنسبة للإسرائيلي أكيد أن هذا هو أسوأ من المفاجأة الاستراتيجية التي حدثت في حرب أكتوبر عام 1973، وهو أسوأ كابوس للكيان على الاطلاق.
كذلك يُعد من أبرز تداعيات عملية طوفان الأقصى تزايد الهوة وفقدان الثقة بين مكونات المجتمع الصهيوني لا سيّما قدرة الجيش على حماية المستوطنين وهذا ما سيكون مساعداً في تفعيل وتسريع الهجرة المعاكسة. وقد زرعت هذه المعركة الخوف في قلوب وعقول جيل الشباب الصهيوني، محطمةً غروره وتعاليه، والذي سعى جيل المؤسسين (مائير، بن غوريون..) جاهداً لترسيخه في أذهانه.
من الصمود إلى الهجوم
لقد أعادت معركة "طوفان الأقصى" كي الوعي العربي والإسرائيلي على حد سواء. فقد رسخت في أذهان الناشئة العرب فكرة المقاومة وصوابية خيارها، ومحت من ذاكرتهم كل مشاهد الخزي والعار التي تكرست فيها على مدى السنوات الماضية وانقلبت الصورة فأصبحنا نرى الجندي الصهيوني مُساقاً على أيدي أبطال المقاومة والبندقية موجهة إلى رأسه.
كذلك ولأول مرة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني شكل وجود مئات الأسرى الصهاينة في سجون فصائل المقاومة ضربةً موجعة للمحتلين، وهذا الموضوع سبب إرباكاً في صفوف قوات الأمن التابعة للنظام الصهيوني، فقد أضعف بشدة الإعلان عن أسر الصهاينة ونشر صورهم على شبكات التواصل الاجتماعي بشدة معنويات الجنود الصهاينة وجعلهم خائفين من مواجهة قوات المقاومة.
من أهمّ مفاعيل عملية طوفان الأقصى التي لاقت تعاطفاً وحماساً منقطع النظير سواء لدى الشعب الفلسطيني أو لدى الشعوب العربية والإسلامية أنها جعلت مشروع التطبيع في خبر كان، فبعد أن وضع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وساعده الأيمن ابن زايد كل رهاناتهما على التطبيع، ها هي عملية طوفان الأقصى تضرب بكل تلك الرهانات عرض الحائط، وتُعيد خلط الأوراق بشكلٍ غير مسبوق.
مجازر غزة لن ترمم سقوط وهم التفوق
وفق ثقافة الردع الصهيوني، كان متوقعاً توجه الصهاينة نحو ردّ عسكري عنيف في محاولة لاسترجاع زمام المبادرة وتحقيق أي إنجاز لاستثماره داخلياً وتهدئة بيئته المربكة والمشتتة. وخلّفت المجازر الإسرائيلية مئات الشهداء وآلاف الجرحى من السكان المدنيين، في صورة تعكس مدى وحشية هذ الاحتلال الإسرائيلي الذي يضرب بعرض الحائط كل القوانين والمواثيق الدولية التي تؤكد ضرورة حماية المدنيين في أوقات الحروب.
ختاما ً لقد باغتت المقاومة إسرائيل على مستوى الدولة والمجتمع، كما باغت "طوفان الأقصى" الوعي العربيّ والإسلاميّ عبر هذا العكس لحركة تاريخ الصراع في عدّة مناح، ومن المؤكد أن ما بعد الطوفان، ليس كما قبله تماماً، فكل عناوين ومعادلات ومقاربات المشهد أصبحت ترتكز على القاعدة الصلبة التي أحدثها ” طوفان الأقصى”، وهذا ما يتوجب على المجتمع الصهيوني بكل أطيافه قراءته وإدراكه جيداً، ومن ثم المسارعة إلى حزم حقائبهم والعودة من حيث أتوا.