الحركة التشكيليّة الفلسطينيّة المبكّرة
عندما يقيم الفنّانون التشكيليّون الفلسطينيّون معارض لتقديم أعمالهم الفنّيّة، مثلما حدث طوال العام الماضي في مختلف دول الخليج الفارسي، وبخاصّة في الأسابيع الثقافيّة الفلسطينيّة وغيرها من المناسبات، أو حتّى العروض الفرديّة الّتي يقوم بها فنّانون مختلفون؛ فإنّهم يقدّمون بذلك استمراراً لحركة متّصلة للفنّ التشكيليّ في فلسطين المحتلّة، بدأت تقريباً منذ عام 1965.
ولقد نُشِرَت دراسات تتعرّض لذلك الموضوع الهامّ، منها الدراسة الّتي نُشِرَت في "مجلّة البيادر المقدسيّة" أخيراً، للكاتب سمير عثمان، وكذلك الدراسة الّتي نُشِرَت هذا العام للكاتب الفلسطينيّ محمّد المشايخ في صورة كتيّب صغير، صدرت عن "منشورات آسيا" بعنوان: "أضواء على الأدب والفنّ في الأرض المحتلّة"، أشارت الدراستان إلى تطوّر مراحل الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ.
قضيّة الفنّان التشكيلي الفلسطيني
التساؤل المطروح هنا هو حول قضيّة الفنّان التشكيليّ؛ فما من شكّ أنّ الفنّانين الفلسطينيّين يحملون على أكتافهم رسالة مقدّسة، هي المشاركة في النضال ضدّ العدوّ الصهيونيّ، ولقد تعرّض جميعهم للملاحقة والمصادرة والسجن والقهر، مشاركةً للشعب الفلسطينيّ في وطنه المحتلّ ونضاله الباسل ضدّ استفزازات العدوّ وهجماته الوحشيّة، إلّا أنّ حمل رسالة عظيمة كتلك لا يكفي وحده لقيام فنّ عظيم، وأنّ الدور الّذي يجب أن يؤدّيه الفنّان الفلسطينيّ هو العمل من أجل تأكيد موضوعيّة الفنّ الفلسطينيّ، إلى جوار موضوعيّة النضال السياسيّ العسكريّ اليوميّ؛ فلا يكفي أن يسترشد الفنّان ببعض الشعارات السياسيّة ليقولها مباشرة في لوحته، لأنّها حينئذ قد تقوم بدور سياسيّ، ولكنّ القيمة الحقيقيّة للفنّ تنبع من استقلاله بقوانينه الخاصّة، ومن هنا يكون ثراؤه ويكون امتلاكه الحقيقيّ وليس الخارجيّ، لكلّ الأبعاد الاجتماعيّة
والسياسيّة الأخرى.
إذ أنّ الفنّان الّذي يستطيع أن يطوّر قيمة جماليّة لشعبه، هو الفنّان الّذي يطوّر حسّه ووجدانه ليصبح أكثر كفاءة للقيام بنضاله في كافّة الظواهر الأخرى. أمّا الفنّان الّذي يقدّم مجرّد الشعار السياسيّ، فهو أساساً لا يطوّر القيم الفنّيّة، علاوة على أنّ الشعار الّذي نادى به هو معروف مسبقاً، وليس بحاجة إلى مزيد من التأكيد والتعريف.
إنّ تجربة الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ لتشوبها شوائب كثيرة، شأنها شأن كلّ تجربة نضاليّة صاعدة في العالم كلّه، منها المباشرة والإلحاح على الشعار السياسيّ والتقليديّة في كثير من الأحيان، ولكنّ ذلك لا يلغي الدور النبيل الّذي قامت وتقوم به من نقد ذاتيّ وإعادة نظر مستمرّة، ممّا سيكفل لها مستقبلاً أرحب.
علاوة على أنّ هناك في خضمّ هذه الحركة المتميّزة علامات مضيئة، على روّاد هذه الحركة أن يركّزوا الضوء عليها، وأن ينمّوها؛ فرموز الفنّان مصطفى الحلّاج مثلاً استطاعت أن تحقّق وجوداً مثيراً في أعماقنا، وكذلك الروح الّتي تدفّق من خلالها الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ؛ حيث نشعر بشيوع رمز معيّن يظلّ يميّز التجربة لفترة طويلة؛ ففي عام 1982، اتّخذ الفنّانون شعاراً لهم وهو القرية الفلسطينيّة، بعد أن كانت أرض فلسطين عام 1980، ثمّ القدس بعد ذلك.
يرى الفنّان التشكيليّ الفلسطينيّ توفيق عبد العال نفس الرأي، حيث يصرّح بأنّ اللوحة موقف له أبعاده النضاليّة، لكنّ هذا لا يعني الهبوط بالقيمة الجماليّة للوحة أو الوقوف بها عند مجرّد الشعار.
حقّاً إنّ أعظم ما قدّمه الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ هو المشاركة في توظيف التاريخ والأسطورة والفولكلور الشعبيّ لمجابهة محاولة العدوّ الصهيونيّ لمسخ ذلك التراث العظيم. فليعمل الفنّانون على البحث عن الهويّة الفلسطينيّة، وليس مجرّد الإعلانيّة والشعاريّة، حتّى نضيف إلى تاريخ الفنّ التشكيليّ العربيّ نقطة بارزة وأساسيّة، ومواكبة لأخطر قضيّة عربيّة معاصرة، هي قضيّة احتلال فلسطين العربيّة.