تعديل «وثيقة الاستقلال» في إسرائيل.. إنقسام حول «الهوية»
حسن لافي
. كاتب ومحلل سياسي
انعقاد المحكمة العليا الإسرائيلية بكامل هيئتها القضائية المتمثلة بخمسة عشر قاضياً لبتّ الالتماسات المطالبة بإلغاء قانون أساس تقليص "حجة المعقولية"؛ أول قوانين التعديلات القضائية التي أقرها الكنيست الإسرائيلي، لا يعدّ حدثاً استثنائياً وغير مسبوق في تاريخ المحكمة العليا فحسب، فقد تخطت الاستثنائية اجتماع كامل هيئة المحكمة العليا إلى مضمون الجلسة التي تناقش إمكانية إلغاء قانون أساس من قبل المحكمة العليا.
إذ تعتبر قوانين الأساس فصولاً منفصلة في الدستور الإسرائيلي غير المكتوب، كما جرى العرف القانوني في "إسرائيل" منذ قانون "يزهار هراري" في دورة الكنيست الأولى عام 1950، الذي يتعامل مع مجموعة قوانين الأساس التي يسنها الكنيست على أنها تشريع متدرج لفصول الدستور التي تتحول نهاية المطاف في مجموعها إلى نصوص الدستور النهائي لـ"إسرائيل".
لذلك، في تعليق رئيسة المحكمة العليا إيستر حيوت على اعتراض بعض المحامين أثناء الجلسة على تدخل المحكمة العليا في قوانين الأساس، قالت: "المحكمة العليا لا تتدخل كل خميس واثنين لتناقش قوانين الأساس"، في إشارة واضحة إلى خطورة قانون محدودية المعقولية" القضائية وتأثيراته في العلاقة بين السلطة القضائية والحكومة والكنيست، الأمر الذي تطلب تدخل المحكمة العليا. لذلك، وصف الإعلام الإسرائيلي الحدث بأنه "يوم تاريخي" في "إسرائيل".
إن ما حدث من طروحات وحجج قانونية في جلسة المحكمة العليا التي استمرت مداولاتها إلى ما يقارب 13 ساعة من النقاش الحاد، أوضحت في طياتها حالة التباين الكبير داخل المشهد الصهيوني اليهودي، ليس حول التعديلات القضائية فحسب، بل أيضاً على أهم أساسات البناء الدستوري المؤسس لـ"هوية إسرائيل" ونظامها السياسي والاجتماعي، وحتى القيمي والاجتماعي، المتمثل فيما يسمى "وثيقة الاستقلال" التي تم إعلانها عشية انتهاء الانتداب البريطاني لفلسطين في 15 أيار/مايو 1948 في جلسة خاصة "لمجلس الشعب" في "تل أبيب"، بحضور 37 ممثلاً عن الاستيطان اليهودي في فلسطين والمنظمة الصهيونية العالمية، والتي تعبر عن "روح وهوية" الكيان الصهيوني الوليد. ورغم أنها لا تعتبر جزءاً من النصوص الدستورية الرسمية، فإنها حظيت بقيمة قانونية سامية تفوق قوانين الأساس التي ليست في غالبيتها إلا استمراراً لروح نصوص وثيقة الاستقلال.
لكن مهاجمة المحامي إيلان بومباخ، ممثل الحكومة أمام المحكمة العليا، بشكل مباشر وثيقة الاستقلال التي أسست للهوية الإسرائيلية برمتها، قائلاً: "لا يمكن لأحد أن يصدق أن 37 شخصاً غير منتخبين نهائياً... ومن دون قصد منهم، وبعجلة من أمرهم، يصوغون لنا وثيقة بطريقة متسرعة نطلق عليها دستوراً تقيد كل الأجيال القادمة"، ما هو سوى تأكيد أن أساس المعضلة والخلاف بين مؤيدي التعديلات القضائية ومعارضيها ليس إلا خلافاً عميقاً ما بين مؤيد للهوية الإسرائيلية الصهيونية الحالية وفريق يسعى لصياغتها من جديد بحسب رؤيته الجديدة.
كل ذلك جرى في أجواء سياسية ومجتمعية وأمنية حامية الوطيس خارج قاعة المحكمة ويشهدها المجتمع الإسرائيلي، لكن انعكاساتها حاضرة بقوة في أرجاء قاعة المحكمة، ورسائلها تتوالى للتأثير في سلوك قضاة المحكمة العليا، إذ كانت الرسالة المشتركة للغالبية العظمى من وزراء وأعضاء الائتلاف الحاكم "أن الكنيست لن يقبل دهسه من المحكمة العليا بالاستسلام والخضوع".
إن وزير القضاء الإسرائيلي يريف ليفين، الذي يعتبر مهندس التعديلات القضائية ومطلق شرارتها في 4 كانون الثاني/يناير من العام الحالي، صرح أن "التداول في إلغاء قوانين أساس تعتبر رأس هرم التشريعات القانونية في إسرائيل واحتمال إخراج رئيس الوزراء من منصبه هو ضربة قاتلة لحكم الشعب"، بمعنى أن هناك تهديداً مبطناً للقضاة بأن الحكومة والائتلاف سيذهبان إلى تفجير أزمة دستورية من خلال عدم التزامهم بقرار المحكمة العليا في حال إلغائها القانون.
وهنا، يذهب النظام السياسي الإسرائيلي برمته نحو الانقسام والفوضى الدستورية، وبعيداً من أية تداعيات سياسية خطرة لقرارات المحكمة العليا بالخصوص، التي عبر عنها المحامي يهودا رسلر في مرافعته أمام المحكمة بقوله: "اليوم أنا خائف؛ خائف على وجود الدولة. نحن لسنا بعيدين من خراب الهيكل الثالث".
ولكن جلسة المحكمة العليا مثلت محاججة فلسفية وقانونية حول مرتكزات الهوية الصهيونية. لذلك، ما ستقرره المحكمة العليا في منتصف شهر كانون الثاني/يناير 2024 سيمثل أخطر قرار قضائي في تاريخ "إسرائيل"، إذ سيكون بمنزلة مرحلة فاصلة بين استمرارية الفكر الصهيوني وما انبثق منه من نظام سياسي قاد "إسرائيل" منذ 75 عاماً وفكر صهيوني جديد يسعى لصناعة نظام سياسي إسرائيلي لم تعتده قبل ذلك.