الصفحات
  • الصفحه الاولي
  • محلیات
  • اقتصاد
  • دولیات
  • الثقاقه و المجتمع
  • مقالات و المقابلات
  • الریاضه و السیاحه
  • عربیات
  • منوعات
العدد سبعة آلاف وثلاثمائة وأربعة وعشرون - ٠٤ سبتمبر ٢٠٢٣
صحیفة ایران الدولیة الوفاق - العدد سبعة آلاف وثلاثمائة وأربعة وعشرون - ٠٤ سبتمبر ٢٠٢٣ - الصفحة ٥

البوصلة والأظافر وأفول المطر (1)

د. سناء الشعلان

إن كان اسمك هاشماً، وكنتَ تملك بوصلة نحاسيّة قديمة مربوطة بجيبك بخيط صوف أزرق غليظ، فلا تفارقه، وكنتَ تجزمُ بأنّك ستموت في أشدّ أيام مربعانيّة (هي عند العامّة الأيام الأربعون الأشدّ برودة في فصل الشّتاء) الشّتاء برودة، وكنتَ تدسّ يديك في غالب الأحيان في جيبي معطفك أوفي جيبي بنطالك كي لا يرى أحد أصابع يديك العاريتين من الأظافر، فأنتَ بلا شكّ هاشم النتّيفيّ (نسبة إلى قرية بيت نتّيف: تقع إلى الشّمال الغربيّ من مدينة الخليل،وتبعد عنها 21 كم، وترتفع عن سطح البحر 425م، وتقوم على قمّة جبل في المنطقة الغربية من جبال الخليل، تبلغ مساحة أراضيها 44587
دونماً.
 وقُدر عدد سكّانها عام 1922 بحوالي (1112) نسمة، وفي عام 1945  بحوالي(2150) نسمة، وفي عام 1948بلغ عددهم (2499)نسمة.
قامت المنظّمات الصّهيونيّة المسلّحة بهدم القرية، وتشريد أهلها البالغ عددهم عام 1948 (2499) نسمة، وكان ذلك في21/10/ 1948.
ويبلغ مجموع اللاجئين من هذه القرية في عام 1998 حوالي ( 18995) نسمة. وقد أقام الصّهاينة على أرضها مستعمرة (نتّيف هلامدة) 1949، ومستعمرة(افيعيزر) 1958،ومستعمرة (روجيلت) 1958، ومستعمرة (نفي مخائيل) 1958. وتُعدّ القرية ذات موقع أثريّ يحتوي على خربة أم الرّوس وخربة أم الحاج والنّبي بولس واليرموك والعبد وجداريا والشّيخ غازي والتّبانة وغيرها. ).
الكثيرون يعرفونه ويجهلونه في الوقت ذاته؛كان اسماً بلا وجه لسنوات طويلة، فطوال سنين سجنه الطّويلة في غياهب المعتقل الصّهيونيّ كان يذكره أفراد عائلته دون انقطاع باسم البطل، وكان يقرن اسمه دائماً بجملة" فكّ الله أسره".
كان يتجسّد في مخيلتي حينها على شكل فارس أسطوريّ قامته ممتدة حتى السّماء، ويداه مغروستان في الأرض على شكل زيتونة ألفيّة، وعيناه مسكونتان بأسراب الحمام البريّ البغداديّ، كان -في نفسي-أكبر من أنّ أتمنّى أن ألقاه، وبقيت أرفض أن أصدّق أنّ الحاجّة وطفة المتكوّمة في ثوب فلسطينيّ أزرق قديم فيه آثار دارسة لقصب ذهبيّ، والمتلفّعة بشالٍ كان أبيض في يوم قد نُسي متى كان هي أمّه التي ولدته، وحملته تسعة أشهر في أحشائها قبل أن يسرقه العدّو الصّهيونيّ من حضنها صبيّاً صغيراً، ويزّج به في غياهب المعتقلات بتهمة الشّروع في قتل مستعمر استولى على بيّاراته، وشرع يخلع أشجارها الواحدة تلو الأخرى بذنب أنّ زارعها فلسطينيّ!
كنتُ أضنّ على أيّ امرأة بشريّة فانية أنها أمّه،وأرى أنّ أمّاً أسطوريّة هي من تليق به؛فهذا البطل الغائب الذي سمعتُ الكثير من القصص عن شجاعته لا تليق به إلاّ أمّاً بعظمة الزّباء أو أمّ سيف بن ذي يزن أو أليسار أو شجرة الدّر، أمّا الحاجّة وطفة المقتضبة في نحو خمسين كيلو غراما وفي مئات خطوط الكبر في وجهها أنّى لها أن تلد كائناً أسطوريّاً مثل هاشم؟!
يوم قيل لنا إنّ هاشماً قد خرج أخيراً من المعتقل شعرت بحزن أنانيّ عميق، فبعد أن يخرج من المعتقل من سيكون بطليّ العائليّ المأسور الذي أفاخر به الصّديقات والمعارف؛ وعندما قيل لنا إنّه قد وصل إلى الأردن، وسوف تقيم له العائلة استقبالاً عائليّاً حاشداً في ديوانها الاجتماعيّ كدتُ أتقيّأ من شدّة الانفعال ثم أصابني صداع نصفيّ لساعاتٍ طويلة،ثم تورّطت في لعبة الانتظار مجهولة الأسباب.
  وكان الحفل الأسريّ الحاشد بعد أيام قليلة تواترت عليها أخبار شتّى عن تفاصيل عودة هاشم،فعرفنا أنّه عاد وحيداً عبر معبر الجسر إلى الأردن، وانتحبنا طويلاً عندما عرفنا أنّ الحاجة وطفة الضّريرة عرفته من رائحته قبل أن يقول أيّ كلمة،وخجلنا من بخلنا عليه عندما عرفنا أنّه اشترى بدنانيره القليلة التي يملكها من حطام الدّنيا مترين من قماش الحبر لأمه التي لطالما سمعها في طفولته تسبّ أخوته إن شاكسوها بقولها:"يا أولاد الكلب، هل اشتريتم لي ثوب الحبر كي تزعجونني هكذا؟!
فخمّن أنّ غاية ما تحلم أمّه به هو أن تملك ثوب حبر مطرّزاً بالحرير الأحمر المونّس (الحرير المونّس: أيّ يتكوّن من درجتين من اللّون ذاته. )،ولكنّ نقوده قصّرت دون أن يشتري لها "طبب"( طبب الحرير: كرات الحرير.) الحرير المطلوبة.
  كنتُ أعتقد أنّني سأرى فارساً ذهبيّاً يجرّ بحبله نمراً مقيّداً،خمّنت أنّ أرض ديوان العائلة ستميد بخطواته الضّاربة في الأرض التي ألفت أن تسخر من ثقل الأغلال الوقحة التي تنحاز إلى المعتدي ضدّ صاحب الأرض والحقّ،أغمضت عيني للحظة كي أفتحهما استعداداً لدخوله بصحبة رجالات العائلة،ثم فتحتهما،فلم أرَ الفارس الأسديّ العائد الذي لطالما تخيّلته، وإنّما رأيت رجلاً متكوّماً في معطف شتويّ قديمّ بلحية بيضاء وشعر عنزيّ مسدّل،يسير بثقةٍ مقصودة تكابر عرجاً بادياً في قدمه اليسرى، ويحرص على أن يدسّ يديه في جيبي معطفه،كدّتُ أخون لحظة استقباله، وأهرب من المكان،وطفقت أنتظر الفرصة المناسبة للهرب خارجاً،ولكنّ صوته هو من أخجلني من خيانتي المزمعة،فوحده صوته من جاء على قدر الأمنية؛كان صوتاً فيه أرث كامل من الحكايا والنّضال والشّهداء والأوجاع والكفاح الذي لا يعرف مهادنة،صوته غابة من الرّوائح والكلمات الوجلات والتّنهّدات والصّرخات والإغفاءات واللّمسات.من يستطيع أن يهرب من صوت ابتلع معتقلاً بكلّ ما فيه من جنود غواشم وكلاب عادية وأغلال وسياط وآلات تعذيب؟! صوته مقبرة للأعداء،وترنيمة للبداية والنّهاية.
یتبع...

 

البحث
الأرشيف التاريخي