الفن الفلسطيني بين قمع الإحتلال والإعدام الإلكتروني
دفعت ممارسات الاحتلال الصهيوني الكثير من الفنانين التشكيليين الفلسطينيين إلى تبني أساليب تراثية للتعبير عن الهوية، وهو ما انعكس في بروز أصالة المكان والقضية، والتمسك بهما. ولعل الثيمات الأكثر حضورا في أعمال الفنانين الفلسطينيين تؤكد ذلك، ومنها أزمة المعنى، والشتات، والبحث عن الوطن المفقود وحتى البحث عن الذات تحت ركام عشرات التساؤلات الوجودية.
وهو ما أعطى للفنون الفلسطينية بعدا نضاليا قد لا يكون حاضرا بالقدر نفسه في المجتمعات العربية الأخرى. هذا البعد نراه واضحا في العديد من أعمال رموز القرن العشرين من التشكيليين الفلسطينيين، أمثال ناجي العلي وبشار خلف وميخائيل حلاق.
يقول الباحث الفلسطيني حسني مليطات، في دراسة نشرت بمجلة الدراسات الفلسطينية "شتاء 2022": ارتبط الفن التشكيلي الفلسطيني في تطوره بالظروف والوقائع التي يعيشها الفنانون الفلسطينيون داخل أرضهم أو خارجها، فكانت حالهم مشابهة بحال الشعراء والروائيين وكتّاب القصة القصيرة والمسرح في مواجهة الأحداث والتعبير عنها، إما بتجسيد وقائعها مثلما هي، وإما بتخيل أحداث ذات علاقة في تكوينها.
ويضيف": إلا أننا، ومنذ مطلع القرن الحادي والعشرين، نرى أن التعبير الفلسطيني الفني أخذ اتجاهات متأثرة بالانفجار الرقمي الذي نعيشه وسط بحر الوسائط المعرفية وثورة تكنولوجيا الحواسيب. كذلك نرى أن تقديم الأعمال الفنية كان مصحوبا بميل نحو الرمزية التعبيرية في الفن التشكيلي كحقل أكثر قدرة على التعبير عن مفردات الحياة اليومية والنضال حامي الوطيس".
الرمزية في التعبير
كانت المواهب الفلسطينية وما تزال تتسم بحالة إبداعية فريدة، لكنها في حقيقتها انعكاس جمالي لواقع مأساوي متأزم. ونستطيع أن نرى انعكاسات الوطن الممزق والنفوس المنقسمة في أعمال فنانين فلسطينيين قدموا صور الوطن المحتل وآلامه وانعكاساته عبر وسائط تكنولوجية حديثة تحمل طابعا من الكوميديا السوداء في تناول المعطيات السياسية والأنسنة في تناول المعطيات المكانية.
نرى مثلا في أعمال التشكيلي الفلسطيني سليمان منصور الذي ولد العام 1971، أن الصراع يأخذ شكلا رمزيا؛ حيث يقدم منصور الوطن في صورة امرأة تحمل في يديها فرشاة رسم، وفتاة تحمل مفتاح الدار وفتى يحمل البندقية وتحلق من فوق رؤوسهم حمامة بيضاء. بالانتقال من منصور إلى الفنانة الشابة ندى إسماعيل، نرى أن تلك الرمزية تأخذ وسائط حديثة في التعبير عن نفس المعاني، حيث تقدم ندى في أعمالها رسومات توضيحية بسيطة أو ما يعرف بـ”llustrations”، تعكس من خلالها جماليات التراث الفلسطيني وخصوصيته الثقافية والفنية.
الغريب فيما يتعلق بندى إسماعيل أنها من فلسطينيي الشتات، وأنها لم تزر فلسطين إلا مرة واحدة فقط في حياتها، وبالرغم من ذلك، نرى الهوية الفلسطينية حاضرة بقوة وجمالية فريدة في أعمالها لدرجة تجعلنا نتساءل أنى للفلسطينيين تلك الجذور القوية وتلك الهوية التي لا يمحوها الزمان؟!
القمع الواقعي والإعدام الإلكتروني بالرغم من أشكال القمع والتطهير العرقي المختلفة التي ينتهجها الاحتلال الصهيوني ضد الفلسطينيين، فإنهم يحاولون انتزاع حريتهم انتزاعا عبر أشكال مختلفة من المقاومة، ومنها المقاومة الإعلامية الفنية باستخدام منصات التواصل الاجتماعي بالرغم من حملات الإعدام الإلكتروني التي يتبعها الكيان الصهيوني لقمع أي محتوى فلسطيني مقاوم على الإنترنت.
وتكفي زيارة قصيرة لمحرك البحث في موقع "بنترست"، لنرى حجم المواد الدعائية التي تمثل القضية الفلسطينية من صور فوتوغرافية وملصقات ورسوم وحتى عبارات خط عربي. وفي حين أن تلك الرسوم على بساطتها تحمل معاني قوية ورسائل محددة، فإن صورًا أكثر بساطة قد تكون على "فيسبوك" سبباً لحظر الحسابات أو غلقها نهائيا.
ويشكل الإعدام الإلكتروني، في حد ذاته، دافعا لعدد من الفنانين الفلسطينيين الذين ردوا على تلك الحملة بأعمال فنية ترفض الإعدام الإلكتروني عبر وسم "فيسبوك يعدمنا"، ويظهر في إحدى تلك الرسوم مؤسس "فيسبوك" مارك زوكربيرغ يرتدي بزة جيش الاحتلال ويحمل سلاحا ويقف في وجه طفل فلسطيني مانعا إياه من دخول وطنه.
يؤكد ذلك بما لا يدع مجالا للشك، أن القمع الذي يمارسه الاحتلال، بأشكاله كافة، سواء أكان واقعيا أم رقميا، لا يفت من عضد الفلسطينيين والعرب المؤمنين بأن فلسطين قضية كل العرب، بل يدفعهم لمقاومة أكثر عنفوانًا وقوة، مع قناعة أن الإعدام الذي تغير شكله من اغتيال واقعي دموي لناجي العلي ليصبح إلكترونيا في عشرينيات القرن الحادي والعشرين لن يطمس تلك القضية، بل يوحد صف العرب عليها. وهذا جزء بسيط من طبيعة المشهد التشكيلي الفلسطيني.