المفكّر والأديب والمؤرّخ المسيحي «أنطوان بارا» للوفاق:
الزيارة الأربعينية سحر إلهي وإنجذاب روحي
موناسادات خواسته
الإمام الحسين (ع) شخصية عظيمة خالدة في التاريخ، مصباح الهدى وسفينة النجاة الذي يلجأ إليه الجميع من مختلف الديانات والطوائف، فعلى أعتاب الزيارة الأربعينية وتوافد الحشود إلى مرقده المقدس إغتنمنا الفرصة وأجرينا حواراً مع أحد المفكّرين المسيحيين الذي خاض تجربة السير على الأقدام لزيارة الإمام الحسين (ع) ويصف الزيارة الأربعينية بالسحر الإلهي، وهو الدكتور "أنطوان بارا" وهو من المسيحيين السوريين ويقيم في الكويت، وهو كاتب وأديب مرهف الحس والذوق، درس بكالوريا المنهج العربي والفرنسي في كلية الملكيين الكاثوليك الخاصة ودار المعارف الإسلامية في مدينة يبرود بمحافظة دمشق، ثم أكمل دراسات وبحوث عليا في الأدب العربي واللغة الفرنسية والتأريخ الإسلامي وفلسفة الأديان وأصول العرفان في جامعة الكويت، وإهتم بدراسة سير أهل البيت عليهم السلام عموماً والإمام الحسين(ع) خصوصاً، حيث أصدر كتابهُ في الإمام الحسين(ع) الذي نال شهرة واسعة الموسوم بــ "الحسين في الفكر المسيحي" وقد تم تكريمه من قِبل العتبة الحسينية عام 2014 باعتباره أبرز شخصية معاصرة كتبت عن الإمام الحسين(ع)، وترجم هذا الكتاب إلى 17 لغة، كما تُرجم كتاب "زينب صرخة أكملت مسيرة"، حيث أمضى أكثر من عشر سنوات في تأليف كل منهما، ويعتقد هذا المؤرّخ والمفكّر المسيحي الكبير أن الإمام الحسين (ع) أوجد تغييراً في مسيرة حياته وفيما يلي نص الحوار:
بداية القصة مع أهل البيت (ع)
بداية طلبنا من الدكتور أنطوان بارا لكي يتحدث لنا أنه كيف بدأت قصته مع أهل البيت عليهم السلام وخاصة الإمام الحسين(ع)، فقال: منذ طفولتي بدأت بالكتابة عن الإمام الحسين(ع)، والكتاب الأول الذي قرأته في هذا المجال هو كتاب "مقتل السيد مقرم" الذي يعتبر من المقاتل المشهورة للشيعة، وقد اقترضت هذا الكتاب من أحد الأصدقاء، وبينما كنت أقرأ الكتاب كنت أكتب الهوامش على الكتاب، فقال لي صديقي لماذا لا تألّف كتاباً بنفسك وكانت هذه الكلمات بمثابة الشرارة الأولى في ذهني لتشجيعي على الكتابة وكنت أبلغ آنذك 17 عاماً، وبالفعل بدأت بالكتابة في عمر الـ 22 عاماً، وفي البداية كتبت بالمجالات الأخرى مثل التاريخ الإسلامي وغيرها، وبعد ذلك توقفت لفترة عن الكتابة، فقال لي صديقي إنّك تستطيع بكرامة الإمام الحسين(ع) أن تكتب مرة أخرى، ثم تمكنت من الإستمرار في الكتابة وتمّ تأليف هذا الكتاب "الحسين(ع) في الفكر المسيحي".
في البداية كنت لا أعرف شيئاً عن سيرة الإمام الحسين(ع) حتى أعطاني صديقي كتاب "مقتل السيد مقرم"، فوجدته شخصياً رغم قراءاتي الكثيرة في التاريخ وتخصصي فيه، أنه ليس له مسير في كل الكتب السماوية والواقعية، وهذه الشخصية سحرتني، لذلك بدأت في الإهتمام بها والتوسّع وأحببت أن أضع لها كتاباً.
سموّ النفس والأخلاق عند الإمام الحسين (ع)
عندما سألنا من هذا المفكّر المسيحي عن سبب تأثير الإمام الحسين(ع) على الكثير من غير المسلمين، هكذا ردّ علينا بالجواب: لأن الدين هنا لا دخل له بل في سموّ النفس والأخلاق الحميدة والسماوية والتصرفات الرسالية، ولم يجد أحد في شخصية الإمام الحسين(ع) أي ضعف أو بعد عن الهدف الأساسي، حيث أوجزه: "إنّي لَمْ أَخرُجْ أَشِراً ولا بَطِراً ولا مُفْسِداً ولا ظالِماً، إِنَّما خَرجْتُ لِطَلَبِ إلاصلاحِ في أُمَّةِ جَدّي"، فهذا الشعار سحر الجميع من مختلف الأديان.
ميزة الإمام الحسين(ع) وضمير الأديان
وفي حديث آخر قال هذا المؤرّخ والمفكّر المسيحي: "إنني لم أبك على الإمام الحسين(ع) فقط عندما احقق او ابحث عنه، بل ابكي حتى عندما اتحدث عنه عليه السلام أيضاً، إن الانسان لا يستطيع عندما يسمع حادثة استشهاد الرضيع "علي الاصغر" عليه السلام والسهم الذي رماه حرملة نحوه، أو عندما يسمع كلمة عنه ان يجتنب البكاء"، فسألنا منه عن الميزة الخاصة للإمام الحسين(ع) الذي اجتذبت الجميع، وعن وكتابه القيّم "الإمام الحسين(ع) في الفكر المسيحي"، فقال بارا: هذه الشخصية التي بهرتني وقُمت بدراسة (200) كتاب عنه، وبقيت أُؤلف به 12 سنة، لأن المحيط واسع ولا يمكن الإلمام به في كتاب واحد أو كتابين، أحببت أن أقرأ كل الكتب التي هي قبل وبعد عهد الامام الحسين(ع)، حتى تشبّعت تماماً منه، مبدأه ورسالته، في عقيدة جدّه والتي وصفت حركته انها مثّلت ضمير الأديان إلى أبد الدهور، هذا كان وصفي لها.
شخصية رسالية ذات مبادئ سامية
وفيما يتعلق بردّات الفعل التي واجهها بعد إصدار هذا الكتاب ومدى تأثيره على الآخرين، قال هذا الفيلسوف المسيحي: كان له تأثيراً كبيراً عند جميع الفئات والملل والأديان، لماذا؟ لأنه تحدّث عن شخصية رسالية ليس لها مثيل في التاريخ الإنساني، ولأن مبادئه السامية خرجت من حديقة نبوة جدّه محمد(ص)، وحديقة أبيه أميرالمؤمنين(ع)، فإن هذا السحر الذي سرى بين الناس ليس غريباً ويستجيب له كل صاحب فكر نيّر وسامٍ ويحب الخير للبشرية ويبحث عن أسلوب حياة فضلى.
الزيارة الأربعينية إنجذاب روحي وإلهي
بعد ذلك تحدث عن الزيارة الأربعينية والسير على الأقدام، ولماذا الجميع هكذا يتوجهون لمرقد الإمام الحسين(ع) سيراً على الاقدام، ففي هذا المجال قال المفكّر المسيحي "أنطوان بارا": إن زيارة الأربعين يعجز الإنسان عن وصفها، إن لهذه الزيارة سحراً إلهياً خاصاً، يعجز العقل عن استيعاب فكرة ملايين من الناس يتركون منازلهم ويقطعون آلاف الكيلومترات قاصدين زيارة الحسين (ع)، والناس متحابون فيما بينهم لا ترى سوى الإحسان والخدمة الجميلة التي تزداد سنة بعد أخرى.
هذه التجربة الروحية عشتها بنفسي حيث انطلقنا من النجف ووادي السلام وإلى كربلاء المقدسة على مدى ثلاثة أيام، إنّه إنجذاب روحي وإلهي، يدفع الجميع إلى الوصول إلى النبع الصافي وإلى المقام الشريف للإمام الحسين(ع) رمز العفّة والكرامة والقوّة والثبات على المبدأ.
إنّ النوم والغذاء لم يكن لي مهمّاً خلال هذه الفترة وكنت لا اهتم للحلويات التي كانت توزع على المشاة في هذا الطريق بل ان هدفي كان اكبر من هذه القضايا. وحتى عندما كنت اذهب لمقام السيدة زينب عليها السلام في سوريا كنت ارى نفسي وضيعاً وصغيراً أمام عظمة ومكانة هذه السيدة.
في سنة من السنوات وصلت الحشود إلى 25 مليوناً، وكنت أنا في الزيارة هناك وأُستدعيت لأنقل كلمة بالصحن الحسيني، وخاطبت يزيد وقلت له: "يا يزيد قُم من قبرك الذي يشبه المزبلة وتعال أنظر هذا التكريم الذي ناله من كنت تريد أن تمحوه من فوق الأرض وتمحو آل البيت عليهم السلام، لكن هي حكمة الله الذي يُعلي كلمته ولا مَهرب منها.
الملايين تأتي لزيارته تبرّكاً به
فطلبنا من بارا لكي يتحدث لنا عن مشاركته في هذه المسيرة وكيف وجد الإمام الحسين(ع) بعيون غير المسلمين من جميع أنحاء العالم، فقال: الذين زاروا الحسين(ع) في أربعينيته كانوا على اطّلاع على سِفر حياته المجيدة وعلى كفاحه الذي لم يبخل عليه بأهل بيته وحرم النبوّة وفدى نفسه وأبناءه لهذا المبدأ العظيم الذي أراد أن يُصلح به أمّة جدّه محمد(ص) حين رأى أن بوادر الإنقراض بدأت في هذه العقيدة التي بذل لها المسلمون الأوائل الكثير من التضحيات حتى لا تذهب "هَباءاً منثورا"، لذلك فكلما إطّلع على سيرته العطرة سُحر بها، وبعد هذه القرون الطويلة الناس كلّهم جاؤوا من الشرق والغرب، ليلتقوا ببطل هذه الملحمة الخالدة السماوية، لذلك لا عجب أن نرى هذه الملايين التي حدّثت بها يزيد وقلت: "قُم يا يزيد بين مقبرتك الصادئة في دمشق وانظر إلى هذه الحشود، أردت أن تقضي على آل البيت عليهم السلام، وها هي الملايين تأتي لزيارته تبرّكاً به.
السيدة زينب (س)
ثم تحدثنا عن شخصية السيدة زينب(س) وطلبنا منه ليتحدث عن بطلة كربلاء كما عرفها ودورها في واقعة الطف الأليمة وعن الكتاب الذي ألّفه تحت عنوان "زينب صرخة أكملت مسيرة"، فقال أنطوان بارا: تسليطكم الضوء على السيدة زينب(ع) هدف عظيم، هذه المرأة القدسية العجيبة التي حمت الأسرة المقدسة من الإندثار لإنقاذها الامام زين العابدين (ع).
كتاب السيدة زينب(ع) أخذ منّي ضُعفي الوقت الذي أخذه كتاب أخيها "الحسين(ع) في الفكر المسيحي"، لأن شخصيتها فريدة بين النساء، ليس بين نساء عصرها وحسب، بل بين النساء عامة، لأنها كانت الشجاعة البطلة التي لبّت النداء ودافعت عن حرم أهل البيت عليهم السلام وحفظت للبشرية تلك النعمة العظيمة وهو الإمام السجاد (ع) وألقت بنفسها فوق جسده وقالت للشمر:"إذبحني إذا تريد أن تذبحه"، لأن من مهام تلك القوى البائسة أنهم جاؤوا ليقضوا على كل رجال أهل البيت عليهم السلام الكرام، لكن الله أصابه بالحمى كي تنجو هذه الذريّة المقدسة من الفناء، وهكذا بدأ دوره مع إنجلاء المعركة وقيام الامام السجاد(ع) بمهمته العظيمة.
وأخيراً أنا الآن أعكف منذ سبع سنوات على كتاب عن الإمام زين العابدين(ع)، وإن شاءالله سيُطبع في إيران كما طُبع كتابي عن الامام الحسين(ع) والسيدة زينب(س)، والذي سيترجم إلى الفارسية، وإن شاءالله بعد اربعة أشهر سيرى النور عندكم في إيران بإذن الله.