وليد الشرفا... كيف لشعب أن ينسى أبطاله؟ (2-2)
فارس سباعنة
شاعر وإعلامي
"المهد ومارسابا"... بين الشفاء والموت
يمكن سؤال الضيف عن الدافع الرئيسيّ لكتابة روايته، أو ما الّذي أراد قوله؟ لكنّ الأسئلة جرت مثلما حدثت بالفعل، قال إنّها أكثر الروايات ارتباطاً عضويّاً بالواقع السياسيّ لنهاية مرحلة أوسلو الحقيقيّة، وكلّ ما كان الفلسطينيّون يحلمون به من واقعيّة الحياة الأقلّ توتّراً مع الاستعمار. لا يمكن للرواية أن تغفل عن أسطورة حقيقيّة، عن أبطال ظُلِموا كثيراً لأنّ خصومهم كانوا يعتبرونهم تهديداً، وكان زعيمهم، ومَنْ يتحمّل مسؤوليّة حمايتهم، كان أجبن من تحمّل مثل هذه المسؤوليّة.
جميع أركان الأسطورة الملحميّة توافرت في هذه البطولة، هي ليست شجاعة فقط، أو قوّة تحمّل وصبر، بل معاني الصداقة والحبّ والحلم الصانعة للشخصيّات الملحميّة، هي المحرّك الرئيسيّ للأحداث، وكان شعوري روائيّاً أنّها يجب أن تعود مرّة أخرى، فهؤلاء في جلّهم شخصيّات حقيقيّة، وأضاف: "مع أنّني لم أعش تفاصيل الحكاية، غير أنّني أجريت مقابلات مع الناجين، ومع المبعَد جهاد جعارة، أعطتني وثيقة روائيّة ثمينة". وعن اختيار الكنيستين في الرواية، قال إنّ كلتيهما تأسره منذ زمن؛ ففي «كنيسة المهد» تستحوذ عليه فكرة المهد والجماجم، وأنّ المسيح كان هناك يرضع، وتكرار مأساة المسيح مع فدائيّين آخرين تعرّضوا للخيانة من الجميع، كان العالم يكذب في تقديسه لكنيستهم، ويبيعهم في هذه المواجهة، وقد جاءت الرواية رثاء لفكرة العدالة. "لا أنسى فكرة خيط الدم للمبعد جهاد جعارة، الّذي كان يجرّ قدمه شبه المبتورة، وهذا المشهد تحديداً هو الّذي ولّد لديّ السؤال: كيف لشعب أن ينسى أبطاله؟".
وعن الكنيسة الأخرى يقول الشرفا: "على المستوى الشخصيّ يسحرني التقاء الوادي والجبل، هذه الجغرافيا الّتي تغويني للتأمّل الإبداعيّ، وقد حملت ذلك من قريتي ’بيتا‘؛ فهي التقاء بين الوادي والجبل أيضاً".
أمّا عن الكنيسة: "في الوعي الإنسانيّ لا يمكنك حتّى اليوم فصل السحر عن الأسطورة والعقل"؛ بمعنى أنّ الأساس الروائيّ لحضور الشفاء داخل كنيسة مارسابا هو أنّ المرض البشريّ ناجم عن مرض ثقافيّ؛ فكلّ واحد منّا يُلَقَّح بروايات مختلفة؛ فالرواية التاريخيّة عمليّة تلقيح، والعلاج في الكنيسة كان محاولة لمعالجة الشيفرة الروحيّة والحكائيّة عند المريض الهارب من عائلته؛ ليحميهم من فجيعة موته، وهكذا تخلّق الحوار من خلال التعمّق في المكان عند زيارته".
سؤال الجدوى
هذا التناقض بين مشاعر الراوي في الكنيستين جعلته يصف الدم الكثير؛ الأطراف المبتورة؛ الجروح النازفة؛ العظام البارزة، بمشاهد تحمل جماليّة عالية لأنّها اقترنت بالوفاء والتضحية، كأنّ الجميع يتسابقون لأجل موت أجمل.
يقول الشرفا: "سؤال الجدوى من الفداء، سؤال سياسيّ كبير، فهناك فرق بين مَنْ يتخيّل ومَنْ يدرك، في الحالة الفلسطينيّة تحوّل الواقع إلى سخرية، وانتصار على مستوى الحلم، أمام هزيمة مرعبة في الواقع السياسيّ، فمشروع الانتصار الفلسطينيّ مشروع على مستوى الذاكرة لا على مستوى الميدان؛ فما هو النصر الذي كان ينتظر إبراهيم النابلسي -على سبيل المثال- إلّا في حضوره داخل السردية الوطنية؟
يركّز وليد الشرفا على عجز الخطاب السياسيّ الفلسطينيّ عن مواكبة الفعل الوطنيّ الشعبيّ نتيجة انحساره خلف مصالحه المادّيّة، ويقول إن الخطاب الحزبيّ والفصائليّ والإعلاميّ يصوّرنا شعباً يكره نفسه، ولهذا الخطاب انعكاسه على هزيمة الوعي الفرديّ والجمعيّ، ممّا يجعل النصر مستحيلاً في هذا الواقع.
المعجزة الوحيدة المثيرة للسخرية تتمثّل في العبارة المركزيّة لمبنى الرواية، وهي أنّه لا يعطّل القدرة على القتل إلّا الرغبة في الموت؛ لأنّ هذه الرغبة تتمثّل الآن في فعل المقاومة الفرديّة؛ فالفعل الجماعيّ يتطلّب وعياً طبقيّاً بين مستغِلّ ومستغَلّ، فماذا بقي من هذا الوعي ومن صراعات الطبقات؟ في رأيي أنّه لم يبقَ شيء؛ الطبقات الموجودة خطابيّاً طبقات لغويّة، فلا الإسلاميّون، ولا الماركسيّون أو الثوريّون يمثّلون جوهر أفكارهم.