حداداً على آخر روّاد الصحافة العربية
محمدمهدي شريعتمدار
المستشار الثقافي الإيراني السابق
الوفاق- تُعتبر فترة السبعينيات فترة إستثنائية وغير قابلة للتكرار بالنسبة لجميع الناشطين والخبراء في تطورات غرب آسيا والقضية الفلسطينية والعلاقات الإيرانية - العربية.
في الميدان
في الميدان، كان تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان عقب أيلول الأسود في الأردن عام 1970 ووجود عدد كبير من المقاتلين الفلسطينيين في ذلك البلد، الذي أدى إلى الإخلال بتوازن القوى، تأسيس الحركة الوطنية اللبنانية وبدء نشاطها عام 1973 وحركة أمل عام 1974، الحرب الأهلية في لبنان عام 1975 ودخول آلاف القوات العسكرية السورية تحت اسم قوات الردع العربية عام 1976، قيام الجنوب وإنشاء الجيش اللبناني منطقة عازلة في جنوب هذا البلد لدعم مصالح النظام الصهيوني في العام نفسه، إنشاء جبهة الثبات والمقاومة عام 1977، إجتياح الجيش الصهيوني للأراضي اللبنانية في عام 1977، عام 1978 وعملية الاحتلال التي استمرت حتى عام 2000، إنتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 وما نتج عنه من تغيرات في لبنان، والذي أدى في نهاية المطاف إلى تأسيس حزب الله والمقاومة الإسلامية مطلع الثمانينات، وبعد سنوات أسس محور ومشروع المقاومة في المنطقة، الذي واجه مشروع الاستكبار والصهيونية والاحتلال والتبعية والهزيمة الذاتية والتكفير وإرهاب داعش انتصارات عظيمة عطّلت موازين القوى في المنطقة، كلها تطورات خلقت أجواء فريدة في تاريخ العالم كله، الأمر الذي كان فريداً ومتكرراً بالنسبة لجيل الناشطين السياسيين في ذلك الوقت، وهو أمر مستحيل.
في مجال الفكر والسياسة والحركة الإسلامية
في مجال الفكر والسياسة والحركة الإسلامية، لاسيما في المجتمع الشيعي في لبنان، ظهر ثلاثة علماء مجاهدون إسلاميون، هم: المرحوم السيد موسى الصدر، والشيخ محمدمهدي شمس الدين، والسيد محمدحسين فضل الله في الستينيات، حيث بذلوا جهوداً كبيرة منذ بداية السبعينات وما بعدها، وأنشأوا مؤسسات شيعية تعليمية وخدمية وخيرية؛ وبعد ذلك، مجيء بعض رجال الدين الإيرانيين مثل السيد عيسى الطباطبائي والسيد محمد غروي وغيرهم في نفس العقد، تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان وانتخاب السيد موسى الصدر رئيساً له عام 1969 والشيخ محمدمهدي شمس الدين عام 1975، ظهور الحركات الإسلامية الشيعية مثل حركة الشباب المسلم ودور الشهيد محمد صالح الحسيني الذي انضمّ فيما بعد إلى المرحوم السيد هاني فحص. وعشية انتصار الثورة الإسلامية، أسست لجان العمل الاسلامي، ونشاط حزب الدعوة الإسلامية وفرعه الطلابي النشط جداً يعني إتحاد الطلاب المسلمين اللبنانيين والتي أصدرت مجلة "المنطلق" الخالدة، تشكيل اللجان الإسلامية والتي بعد انتصار الثورة قامت بالتعاون مع لجان العمل الاسلامي ومكتبة الشهيد مطهري بإطلاق لجان الدعم للجان الإسلامية. قيام الثورة الإسلامية الإيرانية، بالإضافة إلى وجود مقاتلين إيرانيين في هذه الفترة في صفوف فتح وأمل، فإنهم جميعاً يشكّلون فصلاً هاماً من فصول الحركة الإسلامية الشيعية وحركة الفكر السياسي الشيعي في العصر المعاصر.
حداداً على آخر روّاد الصحافة العربية
في مثل هذه الأجواء، شكّلت فسيفساء الجماعات السياسية في لبنان، التي كانت مرآة للأفكار السياسية للعالم، وبالتالي حرّية الفكر والتعبير والصحافة والأحزاب، نموذجاً فريداً على الأقل في العالم العربي، وجعل من لبنان موطناً للمثقفين والمقاتلين العرب والمسلمين.
"السفير؛ جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان" أو "صوت مَن لا صوت له" أصدرها المرحوم طلال سلمان الذي وافته المنية يوم 25 أغسطس، في مثل هذه الظروف في مارس 1974. ورغم أن له تاريخاً حافلاً بالجهود الصحفية في مجلات: النضال، والشرق، والحوادث، والأحد، والصياد، كما أصدر مجلة دنيا العرب في الكويت منذ فترة، إلا أنه كان من الصعب عليه منافسة صحيفة النهار التي دخلت عالم الصحافة قبله بـ41 عاماً عام 1933 كان عملاً شجاعاً. وصادف أن كانت صحيفة السفير الوطنية اليسارية التي دافعت عن الحركة الفلسطينية والمقاومة الإسلامية لاحقاً، في منافسة شديدة مع صحيفة النهار اليمينية، وأبلت بلاءً حسناً في مهمّتها الصحفية.
الدور الدائم للسفير وطلال سلمان
في الدور الدائم للسفير وطلال سلمان، الذي ينبغي اعتباره رائد الصحافة العربية بعد محمدحسنين هيكل، ذلك أيضاً في بداية عصر ضعف الإعلام المرئي والمسموع وقلة الإعلام الإلكتروني، يكفي التي كتب فيها أشخاص عظماء ذوي إهتمامات متنوعة مثل عصمت سيف الدولة، وجورج قرم، وبلال الحسن، وعبدالرحمن منيف، وطارق البشري، وسليم الحص، وفهمي هويدي، وكانت هذه الجريدة موطن الراحل رسّام الكاريكاتير السياسي العربي ناجي العلي الذي، بعد نحو نصف قرن من مقتله في لندن، لا يزال لم يظهر له خليفة.
قد التقيت وتحدّثت مع طلال سلمان عدة مرات وفي مناسبات مختلفة، وخلال مهمتي كمستشار ثقافي لإيران في لبنان، قمت بالترتيب لرحلته إلى إيران التي استضافتها المديرية العامة للصحافة والإعلام الأجنبية التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي. رغم أنها لم تكن رحلته الوحيدة لإيران، ورافق الإمام الخميني من باريس إلى طهران في تلك الرحلة التاريخية وأجرى مقابلة مع مؤسس الجمهورية الإسلامية. لسوء الحظ، فإن طلال سلمان الذي كان إجراؤه المقابلات مع العديد من القادة العرب جزءاً مهماً من جهوده، فرغم إشتراطه قبل الرحلة وإصرار المستشارية الثقافية لإيران في لبنان وجهود الإدارة العامة للصحافة والإعلام الأجنبي، إلا أنه لم يتمكّن من إجراء حوار مع السيد روحاني رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية آنذاك.
لا أعرف مَن قال إن السياسي ليس مَن يعرف متى يدخل الساحة السياسية، بل مَن يعرف متى يخرج من الساحة السياسية وينصرف. كان طلال سلمان أحد السياسيين والصحفيين الذين أعلنوا إغلاق صحيفة السفير بعد 42 عاماً في ربيع عام 2015 في ذروة شهرته، بل الحاجة إلى وجوده. وإذا كان ما سمعته من بعض المصادر أن ذلك كان لأنه لم يكن يعلم ولم يكن متأكداً من الطريقة التي ستتبعه بها الصحيفة، فإن هذا الرأي وبراعته وحرصه على الحفاظ على السفير في ما يقرب من نصف قرن من الاضطرابات السياسية في المنطقة.
بالنسبة لجيل اليوم، قد يكون الإعلام المكتوب قد فقد مكانته؛ لكن رسالة السفير ودورها في مسار الفكر السياسي والعمل والنضالات في نصف القرن الماضي سيظل مشرقاً.
وفي نهاية هذه المذكرة، سأذكر مجلة السفير الشهرية وأكثر من عشرة من أعماله المنشورة، وأطلب من المهتمين بالارتباط بين نخب إيران والعالم العربي نشر مذكّراته في مجال الصحافة بكتاب تحت عنوان "كتابة على جدار الصحافة" باللغة الفارسية.
لتخلد ذكرى طلال سلمان وكل المناضلين وأهل القلم والصحافة في فترة المقاومة الوطنية العربية وعصر ما قبل المقاومة الإسلامية.