الوطن بلا «السفير»، والسفیر بدون «طلال سلمان»
توفي طلال سلمان، مؤسس صحيفة السفير، إحدى أشهر وأكبر الصحف في العالم العربي، عن عمر يناهز 85 عاماً. لقد كانت وفاته ثقيلة ومريرة للغاية بالنسبة للعالم العربي وعالم الصحافة. لذلك، وحفاظاً على اسم وذكرى ذلك الإنسان ذي الفكر الطيب والطاهر والشجاع، أكتب بإختصار عن لقائي به منذ فترة في مدينة شمسطار في محافظة البقاع. وشمسطار هي مسقط رأس طلال سلمان وهذا اللقاء كان آخر لقاء لي معه. كما سأنشر مقالي السابق حول إغلاق صحيفة "السفير".
اللقاء الأخير...
خلال رحلتي إلى لبنان، اغتنمت الفرصة لزيارة محافظة البقاع ومدينة شمسطار وزرت صديقي القديم "طلال سلمان". وتوقعت أنه، كغيره من اللبنانيين، سيغادر بيروت ويقضي عطلة نهاية الأسبوع في مسقط رأسه، وفق التقليد القديم.
كان طلال سلمان، مؤسس ورئيس تحرير صحيفة "السفير" الشهيرة، اديباً مشهوراً وشخصية خالدة، ويعتبر من الصحفيين المحنكين القلائل في تاريخ العالم العربي المعاصر. ولقد استقبلنا بود وترحاب كبيرين في منزله. وكان اللقاء لقاءً صادقًا وتمت مناقشة كل شيء. وفور وصولنا، بدأ يتحدث عن ذكريات لقائه ومقابلته الخاصة مع الإمام الخميني (رض) في نوفل لوشاتو وكيف وقف سماحته ورحب به بكل احترام...! كما تحدث عن تواجده في طهران خلال الأيام الأولى لانتصار الثورة الاسلامية ومقابلاته مع أربعين شخصية من شخصيات الثورة، ومن بينهم الشهيد بهشتي والراحل الطالقاني، وعن وصول أول وفد فلسطيني إلى طهران بقيادة "هاني الحسن" أول سفير لفلسطين في إيران والاستقبال الأسطوري للإيرانيين للوفد.. وأشار إلى بعض النقاط حول الذكاء القوي للجمهورية الإسلامية في مواجهة التطورات الراهنة في المنطقة؛ وأيضا عبّر عن وجهة نظره المتفائلة بشأن تطورات العالم الإسلامي رغم الظروف الصعبة الحالية. وأعرب عن اعتقاده بأن هذه "الأمة" ولدت لتبقى، واعتبر تواجد المواطنين للاحتجاج في شوارع الجزائر والسودان وغيرها لمدة ثلاثة أشهر دليلاً حياً على هذا الادعاء. كما أشاد باليمن البطل الذي سيهزم الغزاة ويفضحهم. وأخيراً، تحدث عن ألم انقطاع صوت وإغلاق جريدته، وقال إنه كان يحمل من خلال صحيفته لقب "صوت من لا صوت له"؛ بعد 42 عاماً من الكتابة والنشر المتواصل..
"...لقد كان قرارا صعبا؛ ليس لي انا فقط! بل كان الأمر محزناً لكل اللبنانيين. وكانت هذه الجملة الأخيرة لطلال سلمان قبل أن أودعه.
ثم عرضت عليه مقالي بعنوان "وطن بلا سفير"، أستلهمته من عنوان العدد الأخير من جريدته الذي كتبته بهذه المناسبة في يناير/كانون الثاني 2015. كدليل على الشكر والتقدير، فهو قام بالضغط على كتفي بيديه المرتجفتين؛ تنهدنا ومن ثم التقطنا صورة بأمل أن نلتقي مرة أخرى...
اللقاء الذي لم يتحقق..
الوطن بلا «السفير»
كان الخبر سريعاً ومريراً: إنقطع صوت صحيفة السفير اللبنانية!!!
ولعل أنه لم يتوقع أحداً أن الصحيفة التي أسسها صحفي لبناني ثائر ومثالي اسمه "طلال سلمان" في ربيع عام 1974 (26 مارس 1974) وإنضم من خلالها إلى أسرة الصحافة الكبرى في العالم العربي وأطلق عليها اسم "السفير" بشعار "جريدة لبنان للعالم العربي وجريدة العالم العربي في لبنان" ، إستطاعت جذب أكبر عدد من المتابعين والقراء في أقصر وقت ممكن؛والصحيفة سرعان ما وضعت على عنوانها الرئيسي شعار "صوت من لا صوت له" ووقفت في وجه كل المحن والضغوط التي تعرضت لها المنطقة والعالم العربي، وخاصة فلسطين المحتلة ولبنان منذ الأيام الأولى لصدورها، وجعلت "السفير" مهمة نقل صوت الحقيقة والصادقين أولوية لها،لدرجة أنه في العام الأول من نشاطها، تم استدعاء العاملين فيها إلى المحاكم ستة عشر مرة، وأصبحت الصحيفة صوت أولئك الذين لم تُسمع أصواتهم في أي مكان.
وخلال 42 عاما من صدور الصحيفة، باستثناء ثلاث مرات التي توقفت عن الصدور لمدة أسبوع بأمر من المحكمة، وصلت هذه الصرخة المدوية باستمرار إلى آذان القراء والجمهور في العالم العربي المحب للحرية والمناهض للاستكبار. وكان ضيفاً على نفوس وأرواح المتعطشين لمعرفة الحقيقة وسماع صوت الفضيلة. وحتى في الأيام الصعبة للحروب الداخلية المدمرة في لبنان، وفي الأيام التي كانت فيها قوات الاحتلال الصهيوني المعتدية بالقرب من بيروت، لم يستطع أحد أن يوقف صدور هذه الصحيفة ويسكت صوتها. ولكن كيف يمكن أن نصدق بأن هذه الصحيفة التي لم تستطع أن توقفها الصواريخ والقنابل والاغتيالات ومحاولات اغتيال مسؤوليها وكتابها، وإسكات صوتها ومنعها من الصدور، بأنها ستموت لأسباب اقتصادية فقط؟!!! فهل يمكن إسكات الصوت الذي كان معيناً للصادقين وناصراً للحق في ظل الحياة المضطربة والمتأزمة للمنطقة؟
لقد كانت كل كلمة تنشرها السفير دائما رمزا للصمود والمقاومة، وتكشف مخططات الأعداء. لقد كان القلم الساحر البليغ لـ "طلال سلمان"، رئيس تحرير "السفير" هذا الرجل المثقف والأديب القوي، الذي كان دوماً يلهم الآمال، لمطالبي الحق ولرجال المقاومة والمناضلين والأحرار بوجه الاحتلال الصهيوني والاستكبار العالمي لأكثر من أربعة عقود."... إن وضع حزب الله اللبناني على قائمة المنظمات الإرهابية هو في الواقع تبرئة للكيان الصهيوني من الجرائم الواضحة..." وهذه كانت المطرقة الثقيلة والصرخة المدوية الأخيرة على قادة منظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول، والتي لم يكن لدى أحد سوى طلال سلمان الشجاعة للتعبير عنها. ولهذا كان كبار المفكرين والكتاب المعروفين في العالم العربي يتنافسون لنشر كتاباتهم وأفكارهم وتحليلاتهم في السفير. وكانت صحيفة السفير في كل فصول عمرها الأربعين، دائما، مصدر الفكر النضر في العالم العربي. اليوم لا نتحدث فقط عن «صحيفة» اسمها «السفير»؛ نحن نتحدث عن كنز ثمين وظاهرة فريدة في منطقتنا. كنز يمكنك باستعراض بسيط أن ترى الأسماء الكبيرة التي تحمل أفكارا سامية في المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والأدبية تتلألأ على جبينها؛ أسماء مثل: الشهيد ناجي العلي، رسام الكاريكاتير الفلسطيني الشهير، محمد حسنين هيكل، ياسين الحافظ، سعد الله ونوس، بلال الحسن، عبد الرحمن منيف، سليم الحص، صلاح الدين حافظ، جوزيف سماحة، طلال عتريسي و ...
على مدى أكثر من 42 عاماً، بدأ جزء مهم من قراء العالم العربي يومهم بفارغ الصبر مع "السفير" واستيقظوا على النداء القلبي لديك الصباح هذا ورافقتهم التقلبات من حولهم لحظة بلحظة مع هذا المنبر البليغ. لكن للأسف، عشية العام الجديد، وبعد مرور سنوات عديدة لا تنسى، خفت هذا الصوت دون أن يريد إرادته.
ويأتي هذا القتل الصامت لحق السفير في وقت سقطت فيه الإمبراطورية الإعلامية التابعة للمحور العربي-العبري على المجتمعات العربية مثل الأخطبوط وتمزق جسد الأمة بالقوة. اليوم جاء دور «طلال سلمان» و«السفير»؛ ونأمل الا يسلب منا دومينو "القتل الصامت" الأصوات المؤثرة غداً.
ثم علينا أن نواجه مرارة النداء التي:
لم يعد نسمع صوت الفأس من بيستون بعد الآن
يبدو الأمر كما لو أن فرهاد قد ذهب إلى منام شيرين