أميركا وتركيا وروسيا.. من ضدّ من!
حسني محلي
كاتب ومحلل سياسي
مع التصعيد الأوكرانيّ المستمرّ في البحر الأسود ضد الموانئ والمدن والجسور والسفن الحربية الروسية، ويبدو أنه سيستمرّ، فوجئ الجميع بوصول سفينة القيادة في الأسطول السادس الأميركي البارجة USS Mount Whitney إلى إسطنبول، حيث رست في منطقة ساراي بورنو التي تمرّ من أمامها كلّ السفن الحربية أو التجارية وهي في طريقها من وإلى البحر الأسود.
الجهات الرسمية التي لم تعلن مسبقاً عن هذه الزيارة كلّفت وكالة الأناضول الرسمية إجراء تحقيق مصوّر عن المدمّرة المذكورة، كما فعلت ذلك مع المدمّرة William McCormack Harkin التي رست الأسبوع الماضي بالقرب من جزيرة كوكجا أضا التي تطلّ على مضيق الدردنيل، الذي يربط بدوره بحر مرمرة ببحر إيجة ثم الأبيض المتوسط، كما يربط مضيق البوسفور بإسطنبول بين البحر الأسود وبحر مرمرة.
هاتان الزيارتان المهمتان، ومعهما التحليق المستمرّ لطائرة الإنذار المبكر الأواكس في الأجواء التركية، اكتسبت أهمية إضافية بسبب التوقيت الزمني الذي صادف الفتور والتوتر بين موسكو وأنقرة، بعد أن رفض الرئيس بوتين العديد من دعوات الرئيس إردوغان لزيارة أنقرة واكتفى باتصال هاتفي معه في 2 آب/أغسطس الجاري.
وجاء الفتور والتوتر الروسي هذا بعد سلسلة من الخطوات التركية التي اعتبرتها موسكو استفزازية، وأهمها إخلاء سبيل خمسة من قيادات مجموعة أزوف الفاشية الأوكرانية، وكانوا محتجزين في تركيا وتسليمهم للرئيس زلينسكي خلال زيارته لإسطنبول في 6 تموز/يوليو الماضي. كما وقّع زيلينسكي آنذاك مع الجانب التركي على اتفاقية لتصنيع الطائرات المسيّرة التركية في أوكرانيا مع المعلومات التي تحدثت عن المزيد من التعاون العسكري بين أنقرة وكييف.
واعتبرت موسكو موافقة الرئيس إردوغان على انضمام السويد إلى الحلف الأطلسي وخلافاً لتصريحاته السابقة مؤشّراً مهماً على التغيير المحتمل في السياسة التركية تجاه روسيا، مقابل المزيد من "الاهتمام الأميركيّ" بالرئيس إردوغان عبر بيع طائرات أف-16، وإعطاء الضوء الأخضر للمؤسسات الدولية لتقديم المساعدات العاجلة لإردوغان لإنقاذه من أخطر أزماته التي باتت تهدّد مستقبل تركيا.
وجاءت المعلومات الصحافية التي تحدّثت عن مساعي الرئيس إردوغان خلال زيارته قبل ثلاثة أيام إلى هنغاريا لإقناع صديقه الحميم رئيس الوزراء آوربان بضرورة عدم الاعتراض على انضمام السويد إلى الحلف الأطلسي، لتزيد في الطين بلة في علاقات أنقرة وموسكو التي قيل إنها انزعجت من سلوك إردوغان هذا. وهو ما عبّر عنه السفير الروسي في أنقرة خلال زيارته المفاجئة لوزير الخارجية هاكان فيدان، وذلك بحسب المعلومات الصحافية التي تحدّثت عن مساعي إردوغان لزيارة موسكو بأسرع ما يمكن. وهو ما يتناقض مع تصريحاته السابقة التي قال فيها إنه "قد يلتقي الرئيس بوتين في قمة العشرين أو اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة"، وربما مازحاً لأنّ الجميع يعرف أن بوتين لن يشارك في هذه الفعاليات.
كلّ ذلك مع استمرار مساعي الوساطات المختلفة لإقناع الرئيس بايدن لتوجيه دعوة إلى الرئيس إردوغان لزيارة واشنطن بأسرع ما يمكن، وربما خلال مشاركة إردوغان في اجتماعات الأمم المتحدة نهاية أيلول/سبتمبر المقبل تتوقّع المعلومات الصحافية لإردوغان أن يقدّم المزيد من التنازلات للأميركيين في مختلف المجالات، وأهمها العسكرية والتوصل إلى المزيد من القواسم المشتركة في السياسات الإقليمية والدولية، وأهمها الوضع في سوريا حيث الاعتراض الأميركي على أي انفتاح عربي عملي وجدي على سوريا قد يعرقل المخططات الأميركية الخاصة بشرق الفرات وغربه وذلك بالتنسيق مع أنقرة.
ويبدو واضحاً أنها ضد أي حلّ للأزمة السورية ومهما كانت الضغوط الروسية والإيرانية، وبات واضحاً أنها لم تعد مؤثّرة على الرئيس إردوغان. خاصة بعد أن تلقّى البعض من الإشارات الأميركية الإيجابية لدعمه بشكل مباشر أو غير مباشر، مقابل إشارات منه لتلبية المطالب والشروط الأميركية ولو تدريجياً. هو ما يفعله إردوغان عبر السماح للمدمّرات الأميركية بأن تكون موجودة قرب مضيقي البوسفور والدردنيل، وقبل ذلك بإخلاء سبيل تاجر مخدّرات إسرائيلي محكوم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات، بعد اتصال هاتفي من رئيس الكيان الصهيونى هرتسوغ مع وزير خارجيته ورئيس استخباراته السابق هاكان فيدان.
وجاءت هذه المعلومات بعد الحديث عن ضغوط أميركية وأوروبية على الحكومة القبرصية المعترف بها دولياً للحد من أنشطة الشركات الروسية جنوب قبرص، والتي يملكها مواطنون روس ويحملون الجنسية القبرصية. في الوقت الذي وصل فيه عدد الروس الذين سكنوا الشطر الشمالي التركي بعد الحرب الأوكرانية نحو خمسين ألفاً، ترى فيهم واشنطن وحلفاؤها خطراً على حساباتها في قبرص وجوارها.
ودفعت هذه المعلومات الرئيس زلينسكي لزيارة أثينا فجأة، والاتفاق مع رئيس الوزراء ميجوتاكيس المدعوم أميركياً على الرغم من أنه أرثودوكسي كالروس، على سلسلة من التدابير للحد من أنشطة الروس المختلفة في الجزيرة الاستراتيجية، بسبب قربها من سوريا ولبنان والكيان الصهيوني، وأنّ فيها قاعدتين بريطانيتين، وتحتمي فيها العديد من السفن الحربية الأطلسية التي تراقب تحرّكات السفن والطائرات الروسية في قواعدها في سوريا. وهي تحت مراقبة "تل أبيب" أيضاً عبر المرفأ السياحي الذي تقوم شركة إسرائيلية بتشغيله في الشطر الشمالي التركي وهو قبالة السواحل السورية.
وفي جميع الحالات وأيّاً كانت سياسات المدّ والجزر التي ينتهجها الرئيس إردوغان في علاقاته مع بوتين وبايدن معاً، فقد بات واضحاً أنّ موعد اتخاذ القرار النهائي قد اقترب، وما عليه إلا أن يختار أو يرجّح أحدهما على الآخر، وذلك لملمتهما حساباتهما الخاصة بتركيا وعبرها في المنطقة عموماً، ولكن سوريا بالدرجة الأولى طالما أنها قفل ومفتاح كلّ الحسابات الإقليمية بالنسبة للجميع.