تم الحفظ في الذاكرة المؤقتة...
في العهد القاجاري والبهلوي
عاشوراء نافذة لإثارة الاحتجاج السياسي
تأثر إحياء ذكرى عاشوراء وأشكالها بأحوال الشيعة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في البلدان التي عاشوا فيها. فهي سرية وفي الخفاء وفي البيوت بعيدًا عن الأعين عندما تمنع السلطات الحاكمة الشيعة من الاحتفاء بالمناسبة. وهي علانية وأمام الملأ إذا اتسع صدر الحكام لقبول مثل هذه الطقوس. ولذا سعى علماء الشيعة لإحيائها بوسائل وطرق عدة، فهم يريدون المحافظة على استمرارها في مواجهة السلطات التي كانت تمنع إحياءها بين عهدٍ وآخر.
تراوح إحياء عاشوراء بين السماح والمنع. وفي كل مرة كان الشيعة يستجيبون بالمحافظة على إحياء المراسم بما يتناسب مع الأوضاع التي يمرون بها من تسامح أو ظلم. فإما أن تقام المراسم علانية ويسمع الجميع ما يقال فيها ويشارك الحكام أو الولاة، أو يعود الإحياء مجددًا إلى الخفاء والسرية. لكن الشيعة لم ينقطعوا يومًا عن إحياء المراسم.
وقد جُعلَتْ هذه المقالة على قسمَيْن: تكفَّل القسم الأوّل منهما بدراسة تأثير شهر محرم الحرام في الثورة الدستورية، بينما بحث القسم الثاني دور العلماء في حفظ الشعائر الحسينية في العصر البهلوي الأول.
تأثير شهر محرم الحرام في الثورة الدستورية
بعد بدء الثورة الدستورية، اتخذت المجالس الحسينية في شهر محرم الحرام طابعاً سياسياً ووفرت الأرضية لمحاربة سياسات الحكومة "القاجارية"، وكما تظهر الأدلة بأن العلماء والطلاب في الجمعيات غير الرسمية وخاصةً في طهران استفادت من هذه المجالس، كما لعبت هذه المجالس دوراً مهماً في تعبئة الناس وتوعية الجماهير وإرغام الحكومة على التراجع عن مواقفها، فعلماء الدين والمحاضرون المطالبون بالدستورية وإلى جانب الوعظ والإرشاد حاولوا التعريف بالأفكار الجديدة للناس، وقد لاقت تلك المجالس ترحيباً كبيراً من قبل الناس، وقام العلماء والوعاظ والشعب في هذا المجال بمقارنة ممارسات بني أمية وسياسة الحكومة "القاجارية" وممارساتها ضد الشعب الذي استحضر أحداث كربلاء وقارنها بالأحداث التي كان يمر بها في تلك الفترة.
مسيو نوز وإهانته لرجال الدين
بعد حلول شهر محرم الحرام عام 1323ه توفرت الأرضية لثورة الشعب ضد ممارسات وسياسات الحكومة "القاجارية"، ومن تلك القضايا التي كانت تثير سخط الناس هي توجيه "مسيو نوز" البلجيكي الإهانة لزي علماء الدين، فاستفاد علماء الدين من هذه الفرصة ونشروا صورته مرتدياً زي العلماء، ورفع الناس والطلاب الصورة في المجالس الحسينية منتقدين ما قام به من عمل معارض للدين، وعلى هذا تحولت المجالس الحسينية في شهر محرم الحرام في ذلك العام إلى مركز وقاعدة للتعبير عن احتجاج العلماء والشعب ضد الحكومة "القاجارية، واستمرت تلك الاجتماعات، وخرجت منها مطالبات الشعب لإصلاح الأمور وتطبيق "الدستورية". وهكذا استمر الأمر في اليوم الثاني والثالث من شهر محرم الحرام إذ اجتمع الناس في بيت السيد "عبد الله البهبهاني".
لكن على الرغم من الاحتجاجات المستمرة للعلماء والشعب، لم تهتم الحكومة لمطالبهم. تخيلت الحكومة أنها تستطيع السيطرة على الوضع بتجاهلها وتهدئة غضب الناس. لكن أصر الناس على الاستمرار بمطالبهم، وفي اليوم السابع من شهر محرم ، صعد آية الله السيد "عبد الله البهبهاني" إلى المنبر بناءً على طلب الناس والعلماء وألقى كلمة أمام الناس طالب فيها بإقالة السيد "نوز". وفي السياق نفسه، كتب سماحته مع علماء آخرون عريضة إلى الشاه ، وعلى الرغم من التخريب الذي تعرضت له على يد العملاء والبلاط ؛ وصلت هذه العريضة إلى "مظفر الدين شاه" في اليوم التاسع من محرم. وكان رد الشاه عليها بأنه سيلبي طلبهم بعد عاشوراء، تمت قراءة جوابه على المنبر، ولكن هذا الجواب لم يرض العلماء والناس لأنهم ظنوا أن الجواب يحمل خداع وحيلة.
من جهةٍ أخرى ، قامت الحكومة "القاجارية"، وبغية السيطرة على تحركات الناس ومنع أي تحرك في يوم عاشوراء، بحظر حركة التجمعات العزائية داخل المدينة. لكن الناس انتفضوا في المدينة يوم عاشوراء بقيادة العلماء متحدين الحظر الحكومي. وللسيطرة على الوضع وبحجة حماية الأجانب اتخذت الحكومة عدداً من الإجراءات الأمنية، حيث وضعت الجنود على أبواب منازل الأجانب ، ونزل الجنود إلى الشوارع على مدار الساعة وفق هذه الذريعة. والجدير ذكره بأنه خلال أيام عاشوراء صدرت في المدينة بيانات كثيرة ضد "عين الدولة" والمسيو البلجيكي "نوز" ووزير الشرطة "سعيد السلطنة".
بعد نهاية عقد الحداد حاول العلماء والناس مواصلة الصلاة لتحقيق مطالبهم، ومن هنا استمر عقد اجتماعات الصلاة بعد عاشوراء. في الثاني عشر من محرم عُقد اجتماع للجمعية السرية في منزل ناظم الإسلام كرماني". في هذا اللقاء، صعد آية الله السيد "عبد الله البهبهاني" إلى المنبر متحدثاً عن خرق ميثاق الحكومة، وعن فظائع السيد "نوز" ضد التجار وسيطرته على العادات، وموضوع صورته بالزي الديني.
نفي الوعاظ لوقف المراسم
عشية محرم عام 1324ه، اتخذت الحكومة "القاجارية"، بما اكتسبته من تجربة محرم في العام السابق، إجراءات للسيطرة على مراسم العزاء في ذلك العام. وفي هذا الصدد، فكر "عين الدولة" في نفي الوعاظ. وكان سيد "جمال الدين واعظ" أحد هؤلاء الوعاظ. فبعد عودة العلماء من الاعتصام في مرقد السيد "عبد العظيم الحسني" استاء مظفر الدين شاه، من "سيد جمال الدين" وطالب بنفيه. لكن عارض الدستوريين طلبه. وأوضح عين الدولة أنه بما أن منابره تثير الناس و تساهم في تدهور الأوضاع فمن الأفضل عدم تواجده في طهران في عاشوراء. حتى أنه هدد بقتله إذا لم يغادر طهران، في البداية أرادوا ترحيله إلى مشهد. أخيرا ً، قرروا إبعاده إلى قم. و غادر سيد "جمال" إلى مدينة قم المقدسة. في اليوم التاسع من شهر محرم أرسل آية الله "البهبهاني" و"عين الدولة" و "نير الدولة" حاكم طهران ثلاث برقيات إلى قم وسمحوا له بالعودة إلى طهران.
دور العلماء في حفظ الشعائر الحسينية في العصر البهلوي الأول
لطبيعته، لطالما وضع عزاء الإمام الحسين (ع) السعي للعدالة، ومواجهة الظلم، والحرية ، والشرف والعزة والحفاظ على الشعائر الدينية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطلب الإصلاح والقضاء على الفساد أمام أعين الشيعة وأحرار العالم. لهذه الأسباب شكلت هذه المجالس الحسينية خطراً للمخالفين والمعارضين لها، وتعد هذه العوامل من جملة أسباب منع وتقييد مراسم إحياء المراسم العاشورائية والتجمعات الحسينية.
في هذه الأوضاع ، لم يكن الشعب مستعدًا لاتخاذ إجراءات عملية ضد استبداد وظلم الشاه، لكن بعض رجال الدين والعلماء العظام والمجاهدين أمثال الراحل آية الله ميرزا "محمد علي شاه آبادى" وقفوا ضد النظام. وقد ورد في كتاب "عارف كامل" عن ذلك: "في سنوات منع إحياء المجالس العاشورائية، أحيا الميرزا مراسم زيارت عاشوراء في اليوم التاسع أو العاشر من عاشوراء، رغم منع ومعارضة المسؤولين".
كان آية الله شاه آبادى في طهران حاسمًا ضد "رضا شاه"، وفي ظل إغلاق جميع المساجد والمنابر، لم يغلق مسجده ولم يتوقف عن إلقاء خطبه من على منبره أبداً.
يقول نجل الشهيد آية الله مهدي شاه آبادي، عن أوضاع وأحوال والده: "عندما أمر "رضا شاه" بإخراج المنبر من المسجد لإيقاف خطاب والدي ، لم يتوقف عن إلقاء خطابه واستمر بمتابعة كلامه واقفاً. كما كان ضباط الشرطة يترددون بانتظام إلى المسجد ويكتبون تقريراً عن فحوى كلامه. عندما انتهى آية الله شاه آبادي من خطابه وغادر المسجد، تبعه ضباط الشرطة وطلبوا منه التعهد بعدم الذهاب إلى المنبر مرة أخرى ، لكنه طلب منهم الذهاب وإحضار الأعلى منهم مسؤولية. وأخيراً ، وبعد ازدياد الضغط من ضباط الشرطة، رفع أيديه في وجههم صارخاً:"اعتقلوني، أقول لكم اعتقلوني" . خاف ضباط الشرطة من ردة فعله وتراجعوا إلى الخلف وعادوا دون إظهار أي رد فعل من جانبهم".
تُظهر هذه الحوادث أن التجمعات الدينية والتوسل بالأئمة (ع) وخاصة تجمعات عزاء الإمام الحسين (ع) كانت لها القدرة على معارضة أفعال وسياسات "رضا شاه" المعادية للدين وإلى أي مدى كان رضا شاه خائفًا من هذه التجمعات.
مواجهة مستمرة لإجراءات المنع
بالإضافة إلى ما سبق ذكره، واجه علماء آخرين أيضًا سياسة النظام البهلوي في منع الحداد في تلك الفترة ، ومن بينها أنشطة الميرزا "صادق آغا تبريزي". الذي نفاه "رضا شاه" في سياق حملاته المعارضة للدين، وبعد رفع النفي عنه رفض العودة إلى مدينة تبريز، واستقر في مدينة قم المقدسة التي استمر بتنفيذ أنشطته المواجهة للشاه سراً طيلة فترة مكوثه فيها. عندما كان الميرزا في قم ، حصل على مبلغ كبير من المال، وأرسل هذه الأموال إلى القرى المحيطة بمدينة قم المقدسة بعناوين أموال السكر والشاي، حتى يسمح للقرويين بعقد مجالس العزاء بعيداً عن أعين ضباط الشرطة.
كان الراحل آية الله العظمى الحاج الشيخ "عبد الكريم الحائري يزدي" مؤسس الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة، أحد الذين عارضوا سياسة "رضا شاه" في منع إقامة العزاء الحسيني، وهو في مواجهة سياسات نظام رضا شاه المعادية للإسلام ، لم يتوقف أبدًا عن التوسل بالأئمة وإرساء تقليد الحداد على سيد الشهداء (ع) وقراءة عزاء الإمام الحسين (ع). بالإضافة إلى إهتمامه بقراءة العزاء كل ليلة جمعة والأيام العشر من شهر محرم الحرام، كل يوم قبل بدء الدرس ، يقوم أحد تلامذته (الحاج آغا جواد قمي أو الشيخ إبراهيم صاحب الزماني) ذكر التوسل بالإمام الحسين(ع) الذي أوصى طلابه بترديده أثناء الدرس. ومن بين حالات العزاء التي أشاعها في إيران كانت عزاء الأيام الفاطمية (استشهاد السيدة الزهراء (ع)).
آية الله "بلادي بوشهري" هو أحد الشخصيات الأخرى التي واجهت الشاه "البهلوي الأول" عبر تنظيمه وإقامته مجالس عزاء ضخمة وعظيمة. وهو على الرغم من كبر سنه، كان يذهب إلى المجالس العاشورائية وخاصةً في أيام عاشوراء ، وكان يقرأ شخصياً مصيبة أهل البيت (ع) على المنبر. كان يتحدث في أيام عاشوراء لمدة أربع ساعات، يوضح في خطابه عن فلسفة النهضة الحسينية وأحداث عاشوراء بلغةٍ فصيحة وبليغة مع الاستفادة من الأشعار والقصائد التي كتبها بنفسه. كانت هذه اللقاءات مشهورة في جميع أنحاء "بوشهر" ويشارك فيها الآلاف من الأشخاص.
في السنوات الخمس الأخيرة من حكم "البهلوي الأول"، تابع النظام منع إقامة مجالس العزاء بجديةٍ أكبر، محاولاً الإستفادة من كافة الأساليب لمنع إحيائها وإقامتها. كان موضوع محاربة الحداد متابعًا بكل جدية، واستُخدمت كل حيلة لمنع الحداد بكل أشكاله. تُظهر هذه الوقائع قوة وقدرة مجالس العزاء والتوسل بالأئمة في معارضة سياسات وإجراءات المنع.
ختاماً بعد الثورة الإسلامية في إيران التي قادها الإمام الخميني (قدس) عام 1979 وأطاح من خلالها بالشاه، طغى البُعد السياسي على إحياء عاشوراء، باعتبارها حافزًا لمواجهة الحاكم الظالم والفاسد. فقد تتالت حركة التظاهرات في المواجهة مع الشاه على وقع مجالس العزاء التي بدأت في أيام عاشوراء وتواصلت مع تشييع الشهداء الذين سقطوا برصاص جنود الشاه. كان الإمام الخميني (قدس) يؤكد: “إن كل ما عندنا هو من عاشوراء”؛ وهو يقصد بذلك القول إن كل وعينا الديني والسياسي والقدرة على التضحية والمواجهة هي من ثمار مدرسة عاشوراء التي تربى عليها الشيعة… والتي تقول بواجب النهوض لمواجهة الظلم والانحراف، بغض النظر عن النتائج المتوقعة من حركة النهوض.