أفريقيا: منطقة نزاع لا تهدأ
سميحة البوغانمي
كاتبة ومحللة سياسية
بعد انقلاب النيجر: هل انفرط عقد النفوذ الفرنسي في القارة السمراء
أعادت التطورات السياسية والعسكرية الأخيرة في النيجر تسليط الضوء على منطقتي غربي أفريقيا والساحل الأفريقي، اللتين ما إن تهدآ حتى تلتهبا من جديد. قارة تحتل المراتب الأولى من حيث المصادر الطبيعية للثروات، كالنفط والذهب واليورانيوم والفوسفات، الأمر الذي يجعلها محطة تنافس تتسابق الدول الغربية نحو الاستيلاء على ثروات شعب، على رغم ثراء أرضه فإنه يعيش فقراً مدقعاً.
يُعَدّ الساحل الأفريقي مفترق طرق بين شمال أفريقيا وجنوب الصحراء، الأمر الذي جعله منطقة نفوذ جيوسياسي فرنسي منذ عقود، غير أن الحسابات العالمية والمتغيرات الاقليمية جعلته مطمع لأغلبية الدول، وغنيمة يسعى كل طرف للفوز بها، لتبدأ فرنسا نتيجة ذلك فقدان نفوذها شيئاً فشيئاً في القارة السمراء، وهو ما أكدته الصحيفة البريطانية the times في تقرير لها في تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، وقولها "إن النيجر ستكون الدولة التالية التي ستخسرها فرنسا لمصلحة روسيا في
غربي أفريقيا".
بدأ تراجع نفوذ فرنسا يبرز فعلاً، عبر كسر ثلاث من الدول الأفريقية، التي كانت تُعرف سابقاً بمستعمرات فرنسا قيودها، من خلال انقلابات عسكرية ونزع جلباب فرنسا عنها في تناغم مع مزاج شعبي يرى فرنسا سارقاً لخيراته وجاثماً على صدره.
انقلابات تمت تباعاً في قلب مناطق نفوذ فرنسا في القارة، آخرها انقلاب النيجر بعد انقلاب مالي في 25 أيار/مايو 2021، وانقلاب في بوركينا فاسو في كانون الثاني/يناير العام الماضي، لتكتب هذه الدول تاريخاً جديداً لها بعيداً عن التحكم الفرنسي والاستغلال الغربي.
ففرنسا، التي كانت الدولة الثانية بعد الإمبراطورية البريطانية، التي تفرض نفوذها على 20 دولة أفريقية، كانت أيضاً أكثر الدول تشبثاً بمستعمراتها وأكثرها خبثاً في ربط مصير هذه المستعمرات بسياسة فرنسا، عبر إقامة فضاء فرنكوفوني، وجعل الفرنك عملةً لمستعمراتها، وفرضها على الدول الأفريقية أو مستعمراتها إيداع نصف أرصدتها في البنك المركزي الفرنسي، لتجعل موارد هذه الدول شرياناً تتغذى منه، ضاربةً بعُرض الحائط ما تعيشه شعوب هذه الدول الأفريقية من فقر وتهميش وحروب وغياب التنمية على رغم ما تسخر به قارتهم من خيرات وموارد.
إلغاء جميع الاتفاقيات الموقعة بين فرنسا ونيامي
المجلس العسكري في النيجر أعلن إلغاء جميع الاتفاقيات العسكرية الموقعة بين باريس ونيامي، وخصوصاً "تمركز" الكتيبة الفرنسية و"وضع" الجنود الموجودين في إطار المعركة ضد "الجهاديين"، وهو قرار لم تقبله فرنسا، التي تقول إن "السلطات الشرعية" في النيجر وحدها مخولة إلغاء الاتفاقيات بين البلدين، لكنها ضمنياً تدرك جيداً خطورة تلك الخطوة وانعكاسها على اقتصادها المنهار أصلاً، وخصوصاً أن هذا البلد الأفريقي يحتل موقعاً خاصاً في استراتيجية الأمن القومي الفرنسي منذ عدة أعوام، بحيث تستخرج شركة الطاقة النووية الفرنسية الحكومية، أورانو، منذ سبعينيات القرن الماضي، يورانيوم النيجر الذي يمد فرنسا بـ35% من احتياجاتها من الطاقة النووية، التي تساهم بدورها فيما يتراوح بين 60 % و70 % من الطاقة الكهربائية الفرنسية، وهو واحد من أعلى المعدلات في العالم.
الانقلاب الأخير في النيجر، على رغم أنه صادر تجربة ديمقراطية بدأت أولى خطواتها، فإنه عبّر عن تحول لم يعد خفياً على فرنسا خصوصاً، والغرب عموماً، وهو إن الإرث الاستعماري لم يعد المتحكم في اللعبة، بل إن المعادلة انقلبت ربما لمصلحة روسيا والصين، وهو ما ذهبت إليه مجموعة من القراءات والتحاليل، إذ خلق الانقلاب الأخير في النيجر قطاعاً من الدول المحكومة بمجالس عسكرية، يمتد من المحيط الأطلسي حتى البحر الأحمر، وأغلبيتها تنحاز بصورة واضحة إلى روسيا، ورافضة التعامل مع الدول الغربية، وخصوصاً فرنسا.
النيجر: أي سيناريوهات منتظرة؟
قد يكون هناك أكثر من سيناريو متوقع، بحسب تطور الأحداث في النيجر، لكن ربما الأقرب إلى الواقع أنه قد تكون هناك مواجهة عسكرية مفتوحة، طرفها الأول السلطة العسكرية الجديدة في النيجر، بدعم من السلطات العسكرية في مالي وبوركينا فاسو وغينيا، وخصوصاً بعد إعلان هذه الدول أنّ "أيّ تدخّل عسكري في النيجر سيكون بمنزلة إعلان حرب علينا". والطرف الثاني هو التجمّع الاقتصادي لدول غربي أفريقيا، الذي أمهل السلطة العسكرية في النيجر "مهلة زمنية قصيرة لإعادة الحياة الدستورية، قبل استخدام القوّة لإعادتها". وهذه الدول مدعومة مباشرة من فرنسا وأميركا. أمّا السيناريو الثاني فقد يتم فيه الذهاب الى تقاسم النفوذ بين الصين وأميركا، سواء كان ذلك عبر إعادة الرئيس بازوم إلى الحكم والانتصار للديمقراطية، أو من خلال تثبيت السلطة العسكرية.