آية الله فضل الله نوري أبرز المنادين بالإسلام السياسي في إيران
شهد تاريخ إيران الحديث والمعاصر، بروز الكثير من الشخصيات الدينية العلمائية، التي أدت أدواراً سياسية واجتماعية وثقافية مهمة تصدرت واجهة الأحداث آنذاك . يُعد الشيخ فضل الله النوري إحدى هذهِ الشخصيات إن لم يكن أهمها على مستوى الساحتين السياسية والفكرية في إيران، فقد جسد أدواراً سياسية وعلمية مختلفة، بدءاً بانتفاضة التبغ ( التنباك ) 1891- 1892 التي كان فيها الصوت المجلجل للميرزا الشيرازي صاحب الفتوى الشهيرة، ومحط أنظار العلماء والجماهير. إذ عمل على تنظيم المجتمع العلمائي وتنوير أفكار العامة وإنضاج الإدراك والإحساس العقيدي، إلى الحد الذي يرى فيه بعض المؤرخين إنه السبب وراء إصدار الفتوى ( تحريم التنباك). في هذه المقالة سنتعرف عليه وهو الذي يُعد من أبرز العلماء الذين نادوا بالإسلام السياسي، ضد محاولات التحريف العلماني والاستعماري، واعتبر البعض استشهاده نقطة تحول في تاريخ إيران الإسلامية.
وقد قامت السلطات في مثل هذه الأيام من عام 1909م، بسبب معارضته للحكومة القاجارية في إيران، ودوره في ثورة التنباك الشهيرة، بصلبه وإعدامه في ساحة المدفعية بطهران، بفتوى من أحد رجالات السياسة آنذاك، وبعد محاكمة صورية أُجريت له ليتم من بعدها بحوالي سنة ونصف دفن الشهيد الشيخ النوري سراً، في مرقد السيدة فاطمة المعصومة(ع) في مدينة قم المقدّسة.
دوره الفكري والسياسي في انتفاضة التبغ والتنباك
كان للشيخ الشهيد دورا حساسا جداً في حادثة تحريم التبغ؛ فقد كان حلقة الوصل المهمة بين مركز المرجعية الشيعية في سامراء مقر آية الله الميرزا "محمد حسن الشيرازي" وبين طهران مركز المواجهة والجهاد ضد عقد امتياز التبغ، حتى أن بعض البرقيات المُرسلة من سامراء إلى طهران خلال تلك الفترة كانت تُحفظ لديه. إلا أن وجود المرحوم الميرزا "حسن الآشتياني" في حينها، جعل القيادة المباشرة للحركة في طهران تقع على عاتقه، وكان الشيخ الشهيد يمثل تقريباً الشخصية الثانية في المواجهة في طهران.
في حادثة مسيو نوج
في شهر محرم عام 1324ه كان الخطباء في المجالس الدينية ينتقدون حكومة "مظفر الدين شاه" المضطربة، نُشرت صورة من "مسيو نوج" البلجيكي الذي كان يعمل في دائرة الجمارك الإيرانية، وهو في لباس علماء الدين. اعتبر العلماء والمتدينون الصورة إهانةً لعلماء الدين ولهذا أقاموا مظاهرات في السوق. تلك الحادثة في طهران إضافةً إلى أحداث المدن الأخرى منها غضب أهالي كرمان بسبب التعامل السيئ لحكام المحافظة مع علماء الدين هناك وغضب أهالي خراسان وقزوين وسبزوار من الحكام المحليين، أدت إلى ظهور حالة من الاستياء على مستوى البلاد. اعتصم الناس والتجار في مساجد طهران وانضم آية الله "طبطبائي" وآية الله "بهبهاني" إلى الاعتصامات والمظاهرات التي شنت عليها القوات الحكومية هجوماً منعاً لاستمرارها، ما دفع بعلماء الدين بمرافقة الناس واللجوء إلى حرم حضرت السيد "عبد العظيم"(ع) مستترين بالمناداة بمطالبهم هناك، والتي كان أهمها تنفيذ قوانين الإسلام وتأسيس "عدالتخانة" (العدلية). بعد الموافقة على المطالب، عاد علماء الدين والناس إلى المدينة، لكن رفض "عين الدولة" مطالبهم لأنها كانت تحد من سلطاته وقام بسجن ونفي المطالبين بها. فشدد الناس من وتيرة النضال وقاموا بمظاهرات بقيادة علماء الدين وانضم الشيخ إلى المناضلين لدعم نهضة المطالبة بعدالتخانه (العدلية). وقال في هذا الصدد:" إنني لا أرضى بإهانة علماء الدين والشرعية ولن أترككم لوحدكم، فأنا موافق على كل ما تقومون به، والذي يجب أن يكون الهدف منه هو الإسلام والشرع".
لو كان الهدف تقوية الإسلام، لما كانت بريطانيا تدعمه
بعد هجرة العلماء وعلماء الدين إلى مدينة قم المقدسة، أصبحت المدينة تعيش حالة عطلة وأصبح الناس قلقين. استغلت حكومة بريطانيا الاستعمارية هذه الظروف وتغلغلت في نهضة العدلية. لكي تنافس الحكومة الروسية التي كانت تدير الأمور في بلاط قاجار. على هذا وبواسطة الماسونيين والمثقفين التابعين لها تغلغلت في صفوف المناضلين وبواسطة بث شائعة هجوم الحكومة على الناس، مهدت الأرضية لاعتصام الناس في سفارتها. كان من رواد هذا الاعتصام حاج "أمين الضراب" والحاج "شاهرودي" وعدد آخرين. لقد قامت نهضة عدالتخانه على أسس إسلامية، ولكن بعد دخول الطابع الغربي عليها، شرع الناس يتحدثون عن الحكومة الدستورية شيئاً فشيئاً. وهكذا كانت المطالبات في بدايتها تتبلور في تنفيذ قوانين الإسلام وتأسيس عدالتخانه (العدلية)، لكن حلت المطالبة بالحكومة الدستورية ومجلس الشورى القومي محلها.
في لقاء جمع ممثلي الحكومة بالمعتصمين والعلماء، سأل الشيخ فضل الله نوري عن الأعمال التي تقوم بها الحكومة مستقبلاً وقبل بتحديد سلطة البلاط والحكومة، لكنه احتج على "الحرية التامة" واعتبرها خلافاً للشرع كما اعتبر وضع قانون مناقض لقوانين الإسلام غير الجائز. هذا الأمر كشف عن عمق اختلاف رؤيته مع المطالبين بالدستورية الآخرين. وعلى إثر القبول بمطالب المناضلين رجع علماء الدين المعتصمين في مدينة قم المقدسة، إلى العاصمة طهران لكن المعتصمين في السفارة الذين كانوا يتناولون الطعام من أواني السفارة البريطانية، لم يخرجوا منها وطالبوا بتغيير مجلس الشورى الإسلامي بمجلس الشورى الوطني؛ أما الشيخ فضل الله الذي لم يكن يتحمل هذا الأمر كما يبدو من كتاباته قال: "لو كان القصد تقوية الإسلام لم تكن بريطانيا الداعمة وإذا كان الهدف العمل بالقرآن لم يكونوا ليخدعوا العامة ولم يلجئوا إلى الكفر ولم يجعلوهم مكاناً لصون الأسرار ومساعدين لهم، أي أحمق يقبل بأن الكفر يدعم الإسلام؟
أخيراً وبعد مفاوضات وتغيير مجلس الشورى الإسلامي إلى مجلس الشورى الوطني، خرجوا من السفارة وبعد انتخاب المندوبين، افُتتح المجلس يوم الأحد الثامن عشر من شعبان 1324ه.
الشيخ فضل الله النوري والمشروطة المشروعة
في نظر الشيخ فضل الله النوري، هناك قضايا مثل المشروطة والمجلس والقانون والحرية والمساواة وما إلى ذلك، على الرغم من أنها مرغوبة وجديرة بالسعي والتحقيق إلا أنه يجب تحديدها جميعاً وتحقيقها وفقا ًلمبادئ وقوانين الإسلام. لذلك يجب ربط المشروطة بسمة المشروعة. لذلك فمن وجهة نظر الشيخ الشهيد، فإن المشروطة الغربية المطلقة تتماشى مع المذاهب البشرية الأخرى وتُعتبر نفسها خالية من المتطلبات والتغييرات الإلهية، إذا لم تكن محدودة ومحددة في إطار الشريعة ومبادئ الإسلام المقدسة. إنها لا تستحق أن تتحقق وتُتبع في المجتمع الإيراني المسلم.
لقد اعتبر الشيخ فضل الله المشروطة حقاً طبيعياً لا جدال فيه لأمةٍ كانت تحت سيطرة حكام مستبدين لقرون. لكن ماذا نريد من المشروطة ؟! كان الهدف المنشود للشيخ فضل الله إنشاء دار العدل ولم ينفصل عن هذا الهدف. ومهما كان قلق الشيخ من المشروطة ، فقد كان حازماً وثابتا في دعم دار العدل.
كانت أول خطوة فاعلة للشيخ في مواجهة تطرف الطيف الغربي المطالب بالمشروطة هي وضع الشعار الشهير " المشروطة المشروعة". وكان قصد الشيخ من اقتراح هذا الشعار مواءمة قوانين وقرارات المجلس بالمعايير الدينية. في الخطوة التالية، وبعد رؤيته أن النضال السلمي غير فعال، بدأ بحظر المشروطة ومحاولة تقريب الحركة من مبدأها الأصلي بنوعٍ سلبي من النضال. أراد أن يوجه المشروطة من عدم الدستورية إلى المشروعة والبرلمان من التطرف إلى الفعل العقلاني ومنع انتشار الفوضى.
وعارض الشيخ المشروطة لأنه يعتبر القائمين على هذه الفكرة ومصمميها هم مديونون للعالم الغربي، ومن حيث انتماءهم الفكري يعتبرهم ماديين، وأهم ما حققوه من المطالبة بالمشروطة وقانونية هو خروج المجتمع المسلم من دائرة الإسلام: "أهم شيء استكمال المظهر الحسن وإن حقوقهم مغطاة بالكثير من الفساد". ووفقًا للشيخ ورفاقه ، فإن النسخة الغربية من البرلمانية المطلقة - حتى لو تم تنفيذها بشكلٍ صحيح ودقيق - لم تكن مناسبة لطابع المجتمع في ذلك الوقت في إيران ، وأن تأسيسها في هذا البلد لم يأت بنتيجة سوى توسيع نطاق الفوضى ، وانهيار السلطة المركزية . وهو لا يتقبلها لأنه يعتبرها ظاهرة غير أصلية ومستوردة ومن الواضح في ظل إيمانه باستدلال مفاده: "لن يجعل الله للكافرين على المسلمين سبيلاً، وفي ظل ملاحظاته على ظهور أفق انتصار المشروطة، فهو يعتبر هذه الظاهرة الخارجية سبب انحراف الدين ، ويفهم أن التعبير عن الذات هو سبب انحطاط الدين ، فيحاول محاربته.
ونستنج مما تقدم وعندما جرى الحديث عن العدلية (عدالتخانه)، دعمها الشيخ باندفاع، وراح يتحرك نحو إقرار العدل ونشر أحكام الإسلام وإقامتها. ولما نزعت كلمة العدل ثوبها لتتحول إلى كلمة النظام الدستوري (المشروطة)، قبل ذلك على أساس العمل بالعدل، وواصل سعيه إلى أن صدر أمر النظام الدستوري. ولكن عندما كشف النظام الدستوري عن حقيقته ــ كديمقراطية أوروبية ــ رأى ذلك مخالفاً لمبادئ الإسلام ونهض لمواجهته.
النظام الدستوري القائم على أسس الإسلام
طرح الشيخ النظام الدستوري المشروع؛ الحكومة التي تقوم على أساس الإسلام ودستورها القرآن. كان يفكر بمجلس شورى إسلامي يُشرف عليه ــ بالضرورة ــ الفقهاء المتخصصون في الشؤون الدينية كي لا يقر قانون على خلاف قوانين الإسلام، ويكون انتخاب هؤلاء الفقهاء بيد العلماء ولا دخل للمجلس في ذلك. بنظره أن نظام الحكم الأوروبي لا ينسجم مع وضع ومصلحة الشعب المسلم في إيران. ولأجل إيجاد النظام الدستوري المشروع، صنع الشيخ فضل الله من طبقة علماء الدين جهازاً قوياً مجهزاً وأخذ يعمل بإيمان راسخ ليجني ثمار عمله. وخلال حياته المباركة حاولوا اغتياله مرة واحدة، ولكنه نجا منها بتضحية ممن حوله في حمايته، فأصيب بفخذه، وألقي القبض على المعتدي، ولكنه لم يرض بقتله، وأمر بإطلاق سراحه! واعتراضاً على انحراف الحركة، قام الشهيد النوري بالاعتصام في صحن السيد عبد العظيم (ع) مع أكثر من خمسمئة من العلماء وطلاب العلوم الدينية المؤمنين في طهران. وقام في هذه المدة بإصدار بلاغات ولوائح مختلفة حاول بواسطتها إيصال أفكاره إلى الناس. وللأثر العميق الذي تركه هذا الموقف، اضطر مجلس الشورى الوطني إلى إمضاء لائحة التزام بالإسلام؛ وبهذا عاد الشيخ إلى طهران. وبعد مدة تفاقمت الأوضاع بسبب الأعمال التي قام بها المطالبون بالنظام الدستوري، الأمر الذي دعا "محمد علي شاه" إلى ضرب المجلس بالمدفعية. إلا أنه بعد سنة وبضعة أشهر سيطر المطالبون بالنظام الدستوري على طهران من جديد، فكان أول عمل قاموا به هو إعدام الشيخ فضل الله النوري، هذا المرجع الذي لو بقي حياً لما استطاعوا بلوغ أهدافهم، تلك الأهداف التي شهدناها على مدى سبعين سنة من عمر النظام الدستوري. أُعدم الشيخ النوري في الثالث عشر من رجب عام 1327 للهجرة، أي في يوم ولادة الإمام أمير المؤمنين علي(ع). حصل ذلك في حال كان فيه أقطاب الاستبداد يتلقون الواحد تلو الآخر المناصب الحساسة في حكومة الدستور.